قرأت كتاب “تراكتاتوس” فيتغنشتاين وأدبياً ”ماء حي“ لكلاريس ليسبكتور. وبدا لي كأن الكتابين يتحاوران. فيتعشتاين يتحدث عن العالم وتحليله بدءاً من الوقائع الذرية، ثم الربط بين الفكر والوقائع الذرية.. ثم الفكر واللغة وبعدها بين اللغة والعالم ومنها إلى قضايا ذات معنى. وفي كل ذلك يعمل على تبيان الاختلاف بين كل قضية وأخرى، كل شيء وآخر.. الاختلاف والفصل.. وفي النهاية إن لم نستطع قول كلام واضح وصادق وذات معنى، فيجب أن نصمت. وهو نفسه يقول في مقدمته أنه يمكن تلخيص الكتاب كله إلى: أن ما يمكن قوله على الإطلاق، يمكن قوله بوضوح، وأما ما لا نستطيع أن نتحدث عنه، فلا بد أن نصمت عنه. (من هنا رفض جماعة التحليل علم النفس). لكن حتى نقول إننا لا نسطيع الحديث عن نقطة معينة يجب أن نكون قد وصلنا إليها بالفعل. أي أننا تجاوزنا الحد بالفعل إلى ما وراءه، ثم نرسم الحد ونصمت. غير أن فيتغنشتاين يدافع عن نفسه بأن هذا الما وراء هو في ذاته لا معنى له، فلنصمت عنه. هنا ترد عليه ليسبكتور: ”أُدرك أنني لا أستطيع قول كل ما أعرفه، إلّا بالرّسم أو بالنطق بمقاطع لا معنى لها“. أي أن اللامعنى نفسه جزء مما يكون. ليرد فيتغنشتاين يجب على الكلام أن يأخذ شكل الصورة-العامة، الصورة. فتقول ليسبكتور: ”إنّ أكثر ما يحرّك مشاعري هو ما لا أستطيع رؤيته، ولكنّه موجود“.
فلسفياً ثمة عدة نظريات:
- اللغة قادرة على التعبير عن العالم وما لا يمكن التعبير عنه هو غير موجود أو غير مهم.
- هناك أشياء تبقى خارج اللغة، تعجز اللغة عن التعبير عنها، رغم أنها موجودة.
- اللغة تعبر لكنها تمارس العنف والسلطة على الذات. اللغة تكتسبها الذات من الخارج، هي جميعة. فهي تحد الذات. لكن هذا لا يعني السقوط في عالم محدد مسبقاً. فمشاركة الوعي الذاتي في الدازاين عند هايدغر أو من أجل الذات عند سارتر هي مشاركتنا في تكوين اللغة نفسها، أي العالم.
عند فيتغنشتاين اللغة هي حدود العالم. هي حدّه النهائي. هو لا ينفي وجود شيء لا تبلغه اللغة لكن ما دمنا لا نستطيع التعبير عنه، فهذا يعني أننا لا نستطيع التفكير به، فهو غير موجود لنا، فلنصمت.
لكن يمكن اعتبار كل كتابة بلانشو كتابة داخل هذا الصمت.
أما باتاي فكتابته كانت ما وراء حدود العالم الذي نعرفه، كتب في ما وراء المعرفة، أراد تجاوز الحدود.
بالتأكيد، فإن بلانشو وباتاي وقعا فيما يصفه فيتغنشتاين بالحديث الذي لا معنى له. كما فعل فيتغنشتاين نفسه في بعض الأحيان. ثمة عبارات ساحرة لبلانشو لكن لا معنى حقيقي لها. أرادا (بلانشو وباتاي) الخروج بمعنى ما من خلال الخوض في الصمت وفي اللا معنى.
ثم لدينا بيكيت الذي يعبّر عما هو ممكن بأبسط شكل وأقصر عبارة. وعندما لا يكون لديه ما يقوله ولا القدرة على التعبير، فإنه يلتزم بالتعبير، يلتزم دائماً بالتعبير، يواصل الثرثرة حين لا يكون هناك ما يقال. يسرد لأنه لا يستطيع أن يهدأ. سرد لا هدوء فيه. فهو عندما لا يجد ما يقال بالفعل، يدمّر اللغة.
كلاريس ليسبكتور: ”إن الكتابة هي استخدام الكلمة كطُعم. تصطاد الكلمة اللّا كلمة. وعندما تلتقط هذه اللا كلمة – من بين السطور- الطعم، شيءٌ يكون قد انكتب…
لا أريد التقيّد الرهيب، تقيّد أولئك الذين يعيشون فقط مما يمكن أن يكون له معنى. هذا ليس أنا: أريد حقيقةً مبتكرة”.
“أحاول أن أكتب لك بكامل جسدي، أطلق سهماً سوف يغرز في النقطة الطريّة والعصبية للكلمة…. أريد أن أمسك الكلمة بيدي، هل الكلمة شيء؟ ومن اللحظات أستخرج عصارة الثمرة. عليّ أن أعزل نفسي من أجل الوصول إلى لبّ الحياة ونواتها. اللحظة هي النواة الحيّة“.