توجّهت إلى السرير مصمّماً على النوم، بعد أن تسرب غطاء من السحاب إلى عينيّ، ولم أعد قادراً على تتبّع العبارات. حاولت جاهداً، وتكشّفت لي عبارة واحدة: النوم يا بيه. هكذا بالمصرية، أقسم. حشرت نفسي في البطانية، وعلى الفور راحت الأفكار تعدو في دوران أعمى في حلبة الدماغ. حاولت تتويج واحدة والخروج من حمى التنافس: كان يوماً عادياً، فكّرت. خرجت في الصباح إلى العمل. الأمور كانت تسير على ما يرام، الجو بارد، والصمت يتمدّد في كل صوب، كما هو الحال في جميع المدافن التي لا يزورها أحد. وصلت إلى المحطة وكانت القطارات تسير في مواقيت دقيقة وفقاً لشاشة العرض، فقد تم رفع السكك منذ زمن، ولم يعد ثمّة مسارات ولا تأخير. قطعت الطرقات والحدائق، سيراً. لم أقابل الكثير. لا يوجد أحد. وهذا ليس بسبب غيابهم، بل لأني فقدت القدرة على رؤيتهم. اختفى الناس بعد أن شاهدت، لمدة أسبوع كامل، وثائقياً يتحدث عن الحروب في العالم. أردت بعدها الابتعاد بنفسي، هذا ما نويته، لكن في النهاية، هم من ابتعد. قليلون من بقيت على قدرة في الاتصال بهم: أولئك الذين يرافقون الحيوانات. وبشكل أدق، من يصاحبون القطط. فالكلاب تبقى على مسافة من أصحابها، فأراهم ولا أميّز من مرافقيهم سوى الظل. أما القطط فهي تملأ التجويفات الفارغة من الجسد: تجدهم في المساحة الفاصلة بين الركبتين، بين الساقين، وتحت الذراعين. يستوون في أي جوف إنساني، ويجعلون من أصحابها مرئيين. صادفت في طريقي قطة مخططة بلون ذهبي وأسود، وسرت خلف صاحبتها: امرأة شقراء، تمشي بكعب خفيف، وبخطوات متردّدة، بحسب ما تتيحه لها قطتها التي التصقت بساقيها، وجعلتها تخطو كما لو أنها تمشي عكس الريح. وعلى هذا وصلت بسهولة إلى محاذاتها، وألقيت على القطة تحية الصباح. صبّحت عليّ السيدة بدورها، وأخبرتني دون أي مناسبة، بأنها تنام بشكل سيىء، قالت إنها بعد أن حاربت هوس شرب القهوة في فترة ما بعد الظهر، وانتصرت، وقعت على كتاب قرأت منه بضع صفحات، كان عبارة عن بيان حول ثلاثة أشكال من الاقتصاد، في اثنين منهما يختفي البشر، وفي الثالث يتحوّلون إلى نفايات، وبعدها لم يعد بإمكانها النوم بسهولة. تتكئ برأسها على الوسادة لساعات وساعات، ولا تنام. تخيّلت التبدلات التي قد تطرأ على وجهها وهي متكئة على الوسادة، وشعرها منسدلٌ إلى جانبها. لهنيهة، انبسط الخيال، وشعرت بالامتنان. ثم صحوت على صوتها وهي تخبرني أنها لا تنام خوفاً على نفسها من التحوّل إلى خردة أو الاختفاء، لكنها في الوقت نفسه تخشى أن يحوّلها هذا الأرق، هذا التعب، إلى خردة، ربما هذه هي وسيلتهم؟ أخبرتها أن الناس قد اختفوا بالفعل، إذ ثمّة رجل لديه نسخة من العالم في منزله، نسخة طبق الأصل، تظهر له على شاشة كبيرة. وهذا الرجل، عندما يغيّر أي شيء في نسخته؛ فإن العالم في الخارج يتغيّر بدوره. وهذا ما جعل الأمر جنونياً بعض الشيء. حين سمع عن تلوّث البيئة: قرّر أن يزيل السكك والمسارات، فلم يعد هناك قطارات ولا سيارات. وبعد مدة، شاهد الرجل من هناك كلّ قبح البشر، وقرر أن ينهي نفسه، لكن الأمور لم تَجرِ كما أراد، فاختفى الناس وبقي هو. هزّت السيدة رأسها بصمتٍ مُحبٍّ، وقالت: “يُخيّل إليّ أنك تقرأ كثيراً لهؤلاء السكارى.. الأدباء”، وابتعدت مسرعةً. لم تُتح لي حتى فرصة الدفاع عن الأدباء. وهذا أفضل. بعدها لم أقابل أحداً، كان يوم عملٍ فارغًا من أيّ حدث، باستثناء الاهتراء الجسدي. لكنني الآن أفكّر في الحروب والمرأة الشقراء والاقتصاد، ولا أستطيع النوم. ساعات كثيرة تسقط، أراقب فيها الليل وهو يغفو، ولا أنام.