تعرّف شافيل على كلامنتين في السكن المشترك الذي يقيمان فيه مع عدة أشخاص آخرين، فقد تقابلا عدة مرات في طريقهما إلى الحمام ليلاً حيث أنّ كليهما يستيقظ بشكل متكرر في الليل لإفراغ مثانتهما كما لو أنهما يفرغان مشاعر الرعب بعد كوابيس مزعجة. اعتبرا أنّ هذا التشابه أمر كافي لبناء تواصل ما.. حيث نشأت في البداية بينهما صداقة عادية، ثم تطورت إلى صيغة من نوع آخر يسمى “صداقة مع فائدة”. كلامنتين شابة جميلة من ريف باريس ذات ملامح صارمة توحي بأنها تعرف تماماً ما تريده من الناس وما أرادته من شافيل هو الصداقة والجنس بعد أن تعبت من الحب، اما شافيل فإنه كان متأكداً من أنها على الرغم من مظهرها الخارجي الصارم لكن داخلها مهشم بطريقة تذكره بالدمار الحاصل في مدينته حلب.. صيغة الصديق مع فائدة كانت مناسبة له تماماً، فبعد أن انتقل إلى لندن أراد أن يحصل على أكبر عدد من الفوائد في الحياة من جنس وعناية صحية والأكل السريع …بهذه الفوائد عوّض عن حالة السلب التي عاشها لمدة طويلة في حلب.
أمام خزانة الملابس وقفت كلامنتين تختار ما سوف تلبسه لسهرة اليوم، حيث رتّبت اليوم عشاءاً مع صديقتها وزوجها في مطعم غرب لندن. اختارت فستاناً أزرقاً فهي عادةً تقتني الألوان التي تراها تعبّر عن مزاجها وقوتها. أخبرها شافيل أنه يعتقد بأن هذا اللون لا يتناسب مع لون شعرها الاشقر وبشرتها البيضاء حيث تبدو فيه شاحبة مثل طائر متألم لعدم قدرته على الطيران، وأن اختيار الألوان يجب أن يتناسب مع المظهر الخارجي فقط للإنسان وأن لا يحمل أي تعبير نفسي. فأجابته أنه ربما من الأفضل له أن يهتم بنفسه ويغير هذه الملابس الرياضية ويلبس طقم أسود رسمي.
أجاب شافيل بأنه يرتاح أكثر في هذه الملابس وأنه لا يرغب في الظهور على شكل إنسان مسؤول أو ذي منصب وأهمية في الحياة وأنه كائن بروستي من حيث الشعور بالذات فلا يرى أي أهمية لنفسه ولا يملك أي قدرة على الإعلاء من شأن ذاته. مارسيل بروست كاتب كلامنتين المفضل التي تفخر به كثيراً فهو من قرية قريبة من مكان مولدها وهي دائمة الإتباع لتقليده الصباحي بشكل صارم.. حيث تبدأ يومها بكوب من الحليب والقهوة مع كرواسان..فهي تعتقد أنه لا شيء أكثر فرنسية من أكل الكرواسان في الصباح وقد انتقلت هذه العادة لشافيل. أجابته أن بروست على الرغم من شعوره الداخلي، لكنه كان يخرج دائماً بمظهر أرستقراطي وأن عليه فعل الشيء ذاته. بدّل شافيل لباسه واختار طقم أسود مع ربطة عنق طويلة…عندما رأته كلامنتين اخبرته أن يترك قضيبه في المنزل ويكتفي بالبابيون حول عنقه.
على الرصيف في انتظار التاكسي، اقترب منهم كلب بولدوغ، صاحب الارجل القصيرة والرأس الكبيرة، تطلّع إليهم للحظة بنظرةٍ رصينة شبه رسمية، وشمّ المكان من حولهما سريعاً، ثم ابتعد بخطوات صارمة بشكل مستعلي بدا وكأنه معزوم على عشاء عمل، علّق شافيل انه بربطة العنق هذه يبدو شبيها بهذا الكلب. في السيارة طلب شافيل بعض المعلومات عن الأشخاص الذين سيقابلهم على العشاء. أخبرته أن صديقتها امرأة جميلة وتتصرف بمسؤولية عالية تِجاه أسرتها ومتمسكة بزوجها الأخرق بشكلٍ تراه كلامنتين جنونياً وأن زوجها شخص شديد الحساسية، ويشعر أن كل شيء بالعالم يحدث بسببه ويدور حول مركز ثقله إلى درجة أنه يتصوّر بأن الهواء الذي يتشكّل أثناء مشيه له من التأثير ما يمكنه من إحداث فيضانات بمكان آخر. حكت لها صديقتها أنه في إحدى المرات خرج ليُحضر الطعام لزوجته وابنيهما، في الطريق دخل لمحل مقامرة وبدأ باللعب إلى أن خسر كل المال الذي يملكه وفي تلك اللحظة استيقظ من غيبوبة الإدمان وأختفى عن الأنظار، عندما وجدته زوجته بعد ستة أشهر أخبرها بأنه شعر في تلك اللحظة بشعور مرير وأنه حرمهم من الأكل بسبب غباءه، وأضاف أن هروبه لم يكن ضرورياً ولكنه كان حتمياً، فقد أحسّ برغبة شديدة في الموت وعندما خرج من المحل أخذ نفساً عميقاً مثل النفس الذي اخذته سيلفيا بلاث بعد أن ملأت الغرفة بالغاز واختفت عن الوجود. علّق شافيل على القصة بأنه بطريقة ما يشبهه ولكن حساسيته أوصلته إلى نتيجة أن كل ما يقوم به لا أهمية له في الحياة وبذلك أصبح أكثر حرية في أن يخلط بين الحاجب والرموش، بين حلب ولندن، الموت والحياة وأنه في مرة تحدث عن الحب كما لو كان يتحدث عن الحسرة. تابع شافيل مخبراً أنه في مرة من المرات دخل محل مقامرة لم يكن يدري على ما يقامر، فوجد على الشاشة سباقاً للكلاب على وشك البدأ، فراهن على كلب يشبه وجهه وجه كلب رآه في إعلان عن كلب مفقود، ففسر بأن وجوده هنا لا بد أن يكون لغاية ما فربما هرب من صاحبه ليحقق طموحاً تملكه لمدة طويلة. عندما بدأ السباق انطلق الكلب بسرعة الكترون كما لو أنه فيديو ليوتيوبر تافه على السوشيال ميديا، لكن قبل الوصول إلى خط النهاية، انحرف عن الطريق متوجها إلى جانب المضمار، وجلس مفسحاً المجال لزملائه بالتقدم -هذا قرار لا يأخذه أي مشهور- لقد بدا الكلب وكأنه يعترض على شيء ما ربما لا يعرفه بعد لكنه تصرف بثقة العارف وصفق له الجميع.
وصل الجميع إلى المطعم، جلسوا على شكل اثنين مقابل اثنين، شافيل مقابل صديقة كلامنتين التي جلست بدورها مقابل زوج صديقتها، أول دقيقتين تفحص كل واحد الآخر كما لو كانوا في غرفة تحقيق، على الرغم من أنه كان يوماً مشمساً لكن الضوء الخافت في المطعم يجعلك غير متأكداً من ذلك.. الزوجة كانت تلبس ربطة عنق عريضة بشكل ساخر، كما لو أنها خرجت من أحد أفلام وودي آلان. فكّر شافيل أنه لو أتيح لكلامنتين أن تعبّر عن رأيها في لباس صديقتها لقالت أن ربطة عنقها تشير إلى أنها تريد قول أنها مرتبطة وسعيدة بذلك ودليل ارتباطي هو قضيب زوجي المعلق على عنقي. كان زوجها يلبس ثياب رياضية بلون أسود باهت، يحرك رأسه بشكل سريع من اليمين إلى اليسار كما لو أنه بطة تائهة في الشارع، وتبحث عن طريق العودة إلى النهر. طلبت كلامنتين وجبة بمكونات محددة من البهار والخضار على الطريقة التي قرأتها في رواية بروست ( البحث عن الزمن المفقود) أخبرتها صديقتها: “عليك الكف عن الالتزام بطقوس بروست على الأقل في الأوقات التي تكونين فيها بالمطاعم، تحلّي ببعض من روح كامو العبثية” ردّت كلامنتين “ربما”، أضاف شافيل “ربما من الخطأ الاعتماد على كامو الذي استطاع رؤية كل شيء قادم ولم يستطع رؤية الشجرة التي أودت بحياته” ثم طلب وجبة دجاج تقليدية. علّقت كلامنتين “خيار سيّء” أجابها شافيل أنه عندما غادر بلده اعتقد أن كل شيءٍ سيكون جديداً، كما لو أن الأشياء تمحى عندما تبتعد عنها لكن الأمر كان خلاف ذلك لأن حال الرؤوس مثل حال المتاحف، هنالك دائما بقايا من الماضي، لهذا السبب يختار دائما أقرب شيء لما اعتاد تناوله في بلده. طلبت الزوجة وجبة لها وأخرى لزوجها الذي بقي شارداً في صورة حساء كما لو أنه غرق فيها، عندما رفع رأسه قال بصوت محتد “اللعنة” وصمت كما لو أنه قال كل ما لديه، لتتدارك زوجته الموقف قالت بطريقة ساخرة “لديه قدرة مستمرة على تدمير اللحظات الهادئة و ربما احببته لهذا السبب، فهو ينفعل بطريقة اراها لغزاً” وأضافت أن زوجها يتغير في حضور الغرباء حتى لو كان شخصاً واحداً. أجاب زوجها “ربما يكون كلامك صحيحاً عني، لكن اللعنة التي اطلقتها كانت لكامو الذي لا أستطيع تحمله وأفضل قصص الخيال العلمي على كل النظريات الفلسفية، لأن الخيال العلمي يتيح على الأقل فرصة تخيّل طريقة للهروب من الأرض” ضحكت كلامنتين بطريقة رنانة تشبه النهيق وقالت: “متى سوف تهرب مجدداً؟؟” همس شافيل لها “أعتقد أن هذه الضحكة سوف تتسبب في طردنا أو موت الناس من حولنا”. وصل الطعام وبينما كان النادل يضع الصحون على الطاولة، تابع شافيل حواره لتلطيف الأجواء قليلاً، فسأل عن أحوال العمل. أجاب الزوج “اعتقد أن العمل بخير” قاطعته الزوجة ” ربما ربما هو جيد في عمله لكني أعتقد انه لا يحب العمل ويرغب بالهروب منه ولكنه متفاني فيه بسبب شعوره بالخجل من صاحب العمل” اكتسى وجه الزوج بلون أحمر كما لو أنه يحترق. أراد شافيل الرحيل لأن العشاء بدا في تلك اللحظة يتحول إلى كارثة طبيعية، شأنها شأن فيضان وانفجار بركان مجتمعين، لكن طالما أن الكوارث الطبيعية لا مهرب منها، فقرر البقاء، نظر إلى صحنه ثم أغمض عينيه قليلاً بعد أول لقمة – هذه عادة بدأ يقوم بها بعد أن يأس من مذاق الأكل في لندن – فربما بالانتقال من الحالة البصرية إلى العمق الذهني قد يسترجع بعض من مذاق الأكل في حلب. عندما فتح عينيه رأى الزوج وهو سارح في صحنه، فكّر شافيل بأن الزوج يبدو كما لو أنه شخصية في فيلم مبتذل لا يرغب أصحابه في صرف الكثير من النقود، فاختاروا هذا الشخص كممثل ليقوم بدور بطة التي تنتقل لتمثيل مشهد رجل بائس أشبه بشمس تحترق في لحظة غروب ما تلبث أن تنطفئ. لم يأكل الزوج أي شيء من صحنه لحظات قليلة وقال “سفرة دايمة” وتوجه إلى الحمام. وعندما بقي مدة أكثر من اللازم توجهت الزوجة لتبحث عنه، ثم عادت وأخبرت شافيل وكلامنتين أنه ربما هرب مجدداً، وأنها لابد لها من الرحيل الآن على أمل اللحاق به. وأصرت أن تدفع ثمن العشاء كنوع من التعويض. أخبرتها كلامنتين بأن السبب ربما يكون شافيل وبدلته الرسمية المتكلفة، وأضافت أن الرجال كلهم يسيئون التصرف. تابعت كلامنتين حديثها كما لو أنها ترغب ان تواسي صديقتها وأن توضح لها أن مصيرهن واحد.
عندما أصبحوا خارج المطعم توجه كلّ واحد منهم في طريق.