البحث عن صوت

المشي، أحياناً يكون طريقة للتخلص مما يؤرق الذهن، وكثيراً ما يكون طريقة لإنتاج فكرة جديدة، الحالتين تحملان راحة كبيرة، بمثابة خلاص للسيد ك، فهو واحد من هؤلاء الذين يرتاحون عندما تنتج أذهانهم فكرة، على الرغم من أن أفكاره، إلى الآن، لم تؤت بأي نتيجة مفيدة ليس له ولا للبشرية، لا بأس.. فهو بطبيعته ينزع إلى الأوهام. يدرك ك أنها أوهام، أحلام، أفكار رجل بائس.. لكنها منعشة له بكل الأحوال. هذا التخيل والخلط بين الواقع والخيال وكأنه نقاش بين العالم المعقول وأفكار أفلاطون. أحب ك أفلاطون بشدة. وكان سعيداً بخيالاته المفرطة حد الوهم. وعلينا أن لا ننسى أن الواقع لا يتغير كثيراً لهذا القسم المسحوق من البشر سواء أكانوا واقعيين أم حالمين. 

كان ك يمشي في إحدى تلك الشوارع التي تكون مزدحمة في ليلتي الجمعة والسبت. يمشي رغم إدراكه أن على جدران فراغه الداخلي هناك كتابات تقول لن يمشي أحد معك في هذه الشوارع. كانت الروائح هناك مختلطة بين البول والكحول، والإضاءة حمراء باهتة وضعها أصحاب النوادي الليلية لتضفي على الجو شيء من الإثارة الجنسية التي يفتقدها هذا الجيل بالرغم من كل محاولاتهم لإظهار العكس، لكن لا شيء يُخفى في أكثر زمن وصلت له البشرية من الشفافية المقززة، حيث بتنا نعرف أكثر مما نرغب عن أي شخص من حولنا.. رحلاتهم، أسرارهم، عاداتهم الخاصة، الكل مسكون برغبة أن يُعرف لحد القرف.. حتى هؤلاء الذين لا نعرف أسمائهم ولا وجههم نراهم يتمايلون بمؤخراتهم خلف حائط من زجاج من غرفنا أو على الشاشات في برامج الواقع، التي لا تنتهي، هناك تقول النساء أن الرجال، مع كل ما يُظهرونه من شغف بالجنس، لكنهم يمارسونه اليوم مثل العصافير. 

كان ك يلتفت كل بضع خطوات يخطوها لينظر إلى الناس من حوله ظناً منه أن أحداً ما يناديه، لكن لا أحد. كان ك مجهولاً بالنسبة للعالم ونكرة في نظر نفسه. أصابته هذه المتلازمة من وهم السمع منذ فترة بعد أن تغير عالمه بطريقة ما، على الأقل هذا ما شعر به، من الجذر كما يقول. حيث تملكه شعور بأنه فقد أساساته دون أن ينهار جسده كما لو أنه أصبح يطفو في الهواء. حيث فقد عمله ثم اتصالاته مع المقربين له على قلّتهم، بالرغم من كل تأثيرهم القوي عليه سابقاً، انتهوا. الأسوء أن كل هذا لم يضايقه بشيء. على العكس شعر وكأنه تخلص من أساسات تعفنت منذ زمن طويل، غالباً شعر أصدقاؤه بالمثل تجاهه. تشكلت تلك العلاقات القليلة في حياة ك نتيجة نظرية بسيطة: وهي مادام أن البشر محكومون بعقدة الاعتراف، أي أن يعترف بنا الآخرون. وهذه الرغبة بطبيعتها تعطي الآخرين سطوة على كياننا. ليخفف ك من وطأة هذه المصيبة الحتمية وضع مهمة تحقيق رغبته تلك في يد واحد أو اثنان من محيطه. مقتنعاً أن ذلك أفضل من أن يعبث الجميع في مؤخرة رأسه. لكن فجأة اختفى هؤلاء أيضاً. ولم يتطلب الأمر الكثير من المشقة. القليل من الصدق وانتهى الأمر بينهم. لكن كما المدمن الذي يعاني من انسحاب المخدرات من جسمه، عانى ك من خسارة الاعتراف به. نتيجة ذلك بدأ يتوهم بأن أحدهم يناديه.. كما لو كان ينشد وجوده، بأن يسمع اسمه.   

أدار رأسه سريعاً، تكاد تكون دورة كاملة مثلما تفعل البومة. نظر باتجاه الصوت، بدا صوتاً شبحياً، مستحيلاً، غير متجسد، ومع ذلك فهو متواصل، باق على قيد الحياة، ينادي أسمه ”ك” من العتمة. عندما همّ ك بالاقتراب، قفز في وجهه شاب يركض بأقدام بدت أنها عاجزة عن حمل وزنه، تلاحقه فتاة وعلى وجهها الماء تنادي“جاك..جاك..جاك أرجوك لا تتركني“ كانت تستجدي جاك و ك والعالم أجمع أن يفعل شيئاً ليوقف جاك، الذي بدوره على الرغم من همة قدماه الفاترة، استمر في الابتعاد. رغم كل ما رددته الفتاة عن حماقتها ومقتها لنفسها واعترافها بأنها مخطئة في كل شيء،”مخطئة“. أحب الأشخاص الذين يميلون إلى الاعتقاد بأنهم مخطئون ويعترفون للآخر بذلك. لديهم طريقة مختلفة من الاحترام، لأنفسهم وللآخرين، لأن أول شيء يفعلونه هو منح الآخر الصواب، مما يزيل كل قيمة للصواب، وينتقلون بذلك إلى عالم آخر خالي من الصواب والخطأ. 

انهارت الفتاة ووقعت أرضاً في قبر صراعها الداخلي الذي كان يدور بين كبريائها ورغبتها اليائسة في استرجاع حبيبها. مدّ ك يده ليساعدها بالنهوض. بصوت غائم ووجه مرتعد كما لو أنها أصيبت بمرض غريب قالت “ هل تعتقد بأنه سيعود؟ “ أجابها ك ”اهدأي، خذي نفساً. يبدو انك تمرين بلحظة من الاضطراب الهلعي- بدا المصطلح أكثر مرحاً مما تعانيه الفتاة” 

” أرجو أن ترافقني قليلاً إلى أن نتجاوز هذا الشارع الذي يبدو أكثر سواداً من حزني، إنه مريع“ لتجنب أسوء ما يمكن أن يحدث في مثل هذه اللحظات، الصمت. وليضيف ك شيئاً مشتركاً آخر بينهم إلى ما كان حتى الآن، الفقد. قال: 

” من مدة إلى أخرى، تتملكني موجة من الاكتئاب ويتزايد هذا الشعور في بعض الأيام لدرجة أن يتشبث بي كما تفعل الغيوم بالجبال.. باستثناء أنه في تلك الأيام لا أكون جبلاً بل أكون أسوء من مسخ كافكا، أشعر كما يشعر الكثير من المنبوذين بأنني حشرة تسحبها الماء لتختفي في إحدى بالوعات المدن. وعندها أشعر، أيضاً، برغبة شديدة بالكتابة كما لو أن فعل الكتابة، رجل إطفاء سوف يُسكن من نار عقلي. لا أعلم ان كان هذا ما يتحدث عنه الكتّاب عندما يسألهم أحدهم عن لماذا يكتب؟.. لكنني لا أظن أن لرغبتي أي دعوة بالكتابة أظنها لا تتجاوز موضوع الإنتاج والقيمة. ليست قيمة تأتي من الآخر إنما انشطر أنا إلى اثنان يعترف أحدهم بالآخر كمنتج. أن أكتب مقطعاً يعني أنني قادر على التفكير وتنفيذ ذلك على الورق. لكن الأمور تسوء عندما لا أجد في رأسي أي شي أرغب في كتابته أو لا أجد شيئاً مطلقاً.. وهذا غالباً ما يحدث فأشعر بالفراغ في رأسي وأغوص أكثر في السواد كما لو انني اسقط داخل عقلي.. لكنني أصبحت أدرك، مؤخراً، أن جميع هذه الموجات مصيرها الزوال“

” هذا فظيع ومقرف. سوداويتي ليست سوى طريقة للتخلص من الغضب اللحظي الذي يستعير في داخلي، هذا كل شيء. الغضب من عدم تقديم جاك الحب على الاختلاف عند وقوع مشكلة“ قالت الفتاة.

بدت الجملة كما لو أنها شتيمة، شتيمة مريرة ومفرحة في آن واحد للسيد ك قذفت في وجه السوداوية لتخلق في تلك الحالة رغبة بالانتحار. تابعت الفتاة حديثها بذكر عدد من حوادث التحرش والاغتصاب التي حدثت في تلك المنطقة. قرأت عن تلك الحوادث في الصحف. تخلل حديثها انقطاعات بالسؤال، هل تعتقد أن جاك سيتصل؟ وتنظر إلى شاشة تلفونها، مترقبة. وصلا إلى شارع تملؤه الإضاءة. عادت الألوان للأشياء. وبدت السيارات فرحة بمرورها من هذا الطريق. تردد ك بما يجب أن يحدث الآن، هل يدعوها إلى منزله؟ كانت فكرة الدعوة مقززة لكن جذابة بشكل غريزي عند الرجال، فلا يمكن أن يتخلصوا من آفة الانقضاض على الضعف. بدت الدقائق طويلة. كانوا في ذلك الشارع ‘بيكيت’ للغاية. رفعت الفتاة غرتها وانتصبت قوائمها عندما تنفس هاتفها، وظهر اسم جاك على الشاشة. 

-جاك أنا على الطريق العام القريب من منزلنا، بصحبة شاب لطيف جداً. كنت خائفة وبقي الشاب معي إلى الآن.

-أنا قادم.

”شاب لطيف“ فكّر ك هل كانت تعني ذلك أم تخفي نصف الحقيقة على عادة الانكليز؟ ربما تكون التتمة لطيف لكن قذر، تعال بسرعة لتخلصني منه. بدا جاك للسيد ك، شاباً لطيفاً، متردداً، يعيش فاتحاً عينيه بشكل واسع ليرى كل شيء لدرجة كبيرة تمنعه من أن يقرر أي شيء. شكروا ك ومضوا. تقدمت الفتاة جاك، ممسكة بيده وتمشي بخفة كما لو أن أقدامها لا تطأان الأرض. 

طاف ك عائماً بأفكاره. سمع اسمه مجدداً بدا الصوت قريباً جداً. التفت فرأى ك نفسه.. إلى جانبه وقفت حمامة على جريدة مرمية على الأرض عندما مالت لتلتقط قطعت الخبز، أعادتها مجدداً، يبدو أن الخبر أسفل قطعة الخبز قد سد نفسها عن الأكل. على الرغم من ذلك كان ك فرحاً برؤية نفسه. هز كل منهما رأسه للآخر بالموافقة على شيء لم يكن مفهوماً لكليهما. لكن ك كان فرحاً بكل شيء. 

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة