الثالثة قبل الشمس

”لا يمكنني تحمل سيرة حياة الأدباء، رغم أن الأدب ليس بهذا السوء“. هذا ما قاله لي صديق اتصل بي هذا الصباح ليطمئن علي، بعد أن رأى مصباح غرفتي مضاء لوقت متأخر على غير عادتي. أخبرته بأني احتجت إلى إجازة بعد عدة أشهر من العمل لساعاتٍ طويلة. أخبرني أنه يسمع في صوتي نفس خيبة الأمل التي يسمعها في صوت والدته، التي حين تشعر بالخيبة تتحدث بصوت غريب ولهجة حلبية مختلفة عن التي اعتاد سماعها منها، كما حالك الآن: ”تتحدثون حلبية مختلفة“. قلت: قد تكون لهجة حلبية الأطراف وأنه مثله مثل كل الحلبية الذين يرون في كل لهجة حلبية يسمعونها، حلبية خارج حلب قليلاً، وضحكت. أضفت أن لا وجود للخيبة في صوتي كل ما في الأمر أنني محتاج لبعض الراحة. أخبرني أنه متعب أيضاً وأنه يقرأ لأنه عاجز عن ترك العمل وأن القراءة بالنسبة له شكل آخر من أشكال الاستقالة. أخبرته أنني أقرأ غثيان سارتر وأجد نفسي قريب نفسياً جداً من انطون لدرجة أن بعض يومياته تتقاطع مع يومياتي بشكل مضحك ومريب وأنني أحببت العصامي، يوجد فيه أيضاً شيء مني، فكما يقوم هو بتثقيف نفسه وفق الألفباء، لينتهي إلى قراءة كل شيء، أرى أنا أن علي قراءة كل شيء قبل كتابة أي شيء. أخبرني أنه يلاحق سير حياة الكتّاب واكتشف أن قسم كبير منهم لا يحتمل ولا يعرف كيف بإمكانه العودة إلى الأدب والتسامح مع كتابة أناس أنانيين، مغرورين ومصاصي دماء للأفراد المحيطين بهم بهذا الشكل، كيف سيتمكن بعد ما اكتشفه من قول أن للأدب فضل كبير على تقدم المعايير في الحياة؟ ربما علي البحث والتفكير في الأمر أكثر، قال. أجبت نعم، فلا يمكن أن نختزل الأمور بهذا الشكل، على الرغم من أنني أتفهمه وأنني كثيراً ما اضطر للاختزال، فلا وقت للقيام بالأمور على الطريقة الصحيحة في عالم اليوم، لكن ما أستطيع قوله: أن المؤلف الحقيقي بعيد عما تصفه، هناك بروست العظيم في أدبه، المتشكك في ذاته، لم يرى نفسه أعلى قيمة من حشرة، وهناك بيكيت الذي كان يتنقل بين كره الذات والسخرية اللاذعة منها وحب أن يكون ذو مكانة. ولا ننسى نجيب محفوظ الذي لم يرى في نفسه أكثر من موظف يكتب في الأوقات المتاحة له. أما كافكا الذي كانت كتاباته تحتوي الكثير من النبؤات وكان نبياً بطريقة ما، ربما كان يدرك ذلك في داخله لكنه لم يأخذ نفسه أبداً على محمل الجد، ولم يكمل أغلب المؤلفات التي شرع في كتابتها وأكثر من هذا لقد طلب بإحراقها جميعاً. أخبرته أني في بعض الأحيان أفكر مثله، لكنني عوضاً عن الخيبة، أبحث عن الجمال، وإن أردت الاختزال، سأقول أن الجمال ببساطة هو: الوقوف على النافذة الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ومراقبة السماء دون القلق من الظهور المتعجل للشمس.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة