كانت المحطة ذات اضاءة خافتة, ومسّورة بقضبان حديدية تشبه تلك المحيطة بالسجون. هكذا هي المحطات في الأرياف تعبر تماماً عن الحياة فيها، فالريف عبارة عن مجموعة صغيرة جداً من الافراد التي تعيش في بقعة صغيرة مسّورة بالطبيعة التي تبعث في روح الشباب الضجر، مثل الضجر الذي شعرت به عزيزي القارئ لمجرد قراءة تعريف للريف. لهذا ترى الشباب هناك يغادرون الى المدن راكضين على السكة الحديدية عوضاً عن انتظار القطار. منهم من يدهسه القطار وهم لازالوا في الطريق وآخرين تقتل روحهم المدينة، قلّة فقط هي من تحقق ماذهبت لاجله.
جلس شافيل، منتظراً القطار الذي سيَقّله الى لندن منهياً بذلك رحلته التي فشلت في تحقيق هدفها، زيارة منزل ويلسون، الفشل أمر اعتاده شافيل ولم يعد يسبب له اي احباط. وصل الى المحطة مبكرًا كما هي عادته مع المواعيد فهو في سباق دائم مع الزمن. راح يتابع كيف يتصارع الحمام مع طيور النورس على الطعام ويضحك كلما سبقت حمامة صغيرة كل تلك النوارس، انتصار الضعيف هو موقف هزلي للبشرية. قاطع هذا المشهد جلوس فتاة امامه، على الرغم من انه اختار مكان مُنزَوٍّ الا ان الكراسي في المحطات مصممة للقاء على عكس غايتها، فالحكومات والبلديات ومارك زوكربيرغ كلهم يشجعون على التواصل. لفّت الفتاة، التي كانت ترتدي تنورة قصيرة وكنزة مفتوحة الصدر مُظهرةً بشرتها النحاسية بفعل أجهزة التان، قدماً على الاخرى. تجنب شافيل النظر اليها محترماً مشاعر النساء اللاوتي يغضبن من النظرات الذكورية، وذلك بمتابعة صراع الطيور، ثم فكّر انه بذلك يكون قد فضّل الحيوانات على الانسان وهو يحب الاثنين على حد سواء. فمرر نظره بشكل آلي بين المقعد والفتاة ثم شاشة مواعيد القطارات. لكنه ادرك انه بذلك قد ساوى بين البشر والآلات وهذا يناسب شافيل، لكنه قد يزعج البشر بما فيهم الفتاة التي تجلس امامه، لذلك قرر أن ينظر إليها لمدة تفوق باقي الموجودات، فالحضور الاجتماعي له قواعده التي لا يرغب شافيل الدخول في صراع معها، عندما وجه نظره اليها بشكل مباشر، نهضت الفتاة من مقعدها منتصبة كما لو انها تريد توبيخه لكن الله ستر بأنها اكتفت بالابتعاد فقط. لعن شافيل البلديات ومارك زوكربيرغ وكل مفاهيمهم، فالتواصل البشري محكوم بسوء الفهم. حتى لأكثر الناس قدرةً على التعبير كغوته الذي صرخ قبل وفاته : “لم يفهمني أحدٌ قط كما ينبغي، ولم أفهم أحداً كما ينبغي، ولم يفهم أي أحد أي شخص آخر”.
ادرك شافيل أنّ هذا الموقف سوف يحتل رأسه لعدة ايام، وليخفف تبعات ما حدث، توجه الى الفتاة شارحاً لها تصرفه هذا، معتذراً عن مضايقتها فتَفهَّمت الامر وبدت سعيدة، كرر هذا المشهد عدة مرات في مخيلته الى أن شعر بالهدوء. ثم فكر بمدى إمكانية تقديم طلب الى الحكومات، على غرار ما فعله الترانس جندر الذين طالبوا بحمامات منفصلة، وأن تقوم الحكومة ايضا بانشاء اماكن خاصة للمتوحدين واعتبارهم أقلية، لكنه الغى الفكرة لأن الاقليات تتحرك كجماعة ومفهوم المجموعة يتعارض مع أسلوب حياة المتوحد.
عندما بدأت الطيور في التحرك بقلق ادرك شافيل ان شيئاً غير طبيعيٍ يشق طريقه مقترباً. عند صعوده المقطورة لاحظ شافيل ان معظم الركاب، الغارقين في هواتفهم، رفعوا رؤوسهم للحظات لرؤية القادمين الجدد ثم عادوا الى شاشاتهم كما لو انه لا نهاية لما يجري هناك، القسم الآخر من الركاب كان ينظر الى الخارج كما لو انهم ليسوا هنا، يتطلعون ايضاً الى اللانهاية. للفريقين طريقة في مواجهة الواقع، لكن الجميع متفق على ضرورة الهروب، الهروب من الواقع الفردي الى كل ماهو بعيد.
عندما وصل الى محطة لندن، رأى الامواج هناك ايضاً، لكنها أمواج بشرية تتزاحم وتلقي الشتائم على كل شيء، شتائم ساعة الذروة. ركب شافيل الموجة مسرعاً الى امانه النفسي، في غرفته او “علبته”،كما يسميها، التي كانت تبدو أكبر مما كانت عليه عندما غادر، بدت وكأنها حصن.