الشرفة

أزال الستار عن باب الشرفة ليَعبر إلى المسرح الخارجي للعالم، بعد أن ضاقت عليه فيونا، توأمه الحالي، ملجؤه الداخلي بمقاطعتها المتكررة لقرائته. عبر العتبة إلى الخارج.. فكّر شافيل أنّ كل خروج إلى العالم هو تجسيد للحظة الولادة. وقف على حافة الشرفة، نظر إلى الأسفل مذهولاً، وصرخ ها أنا هنا ورفع الكتاب وقال هذا عالمي..في الشارع، كان الناس يمشون وهم إمّا ينظرون إلى الأرض أو إلى الأفق دون تركيز في شيء على وجه الخصوص. في المدن الكبيرة، الجميع في عداد المفقودين. 

قرأ لعدة ساعات مجموعة قصصية لهمنغواي، والتي يسميها شافيل ”الرواية المجزأة“ لأنّ القصص فيها مترابطة ببعضها البعض بطريقة ما، كما أنه يفضل هذا النوع من الكتب المقسمة لأنها أكثر شبهاً بحياته، والتي هي عبارة عن زمن شاحب لا يتذكر منه إلا أحداث معينة تبقى محفورة في سقف ذاكرته، مقطوعة من ذاك الزمن كما لو أنّها شذرة فلسفية لا علة ولا برهان لسبب حدوثها. على عكس الروايات التي تكون أحداثها خطية ومتتالية. فكّر في الساعات الطويلة التي قضاها من حياته في الكتب والعمل وإن كان هذا هو الأسلوب الأمثل في العيش، فعلى الرغم من رضاه الكامل عن أسلوب حياته غير المرئي والمعزول، إلا أنّه كل مدة من الزمن تتصارع رغباته الداخلية بين التواجد أو العدم  فالإنسان المعاصر ممزّق بين العقل والقلب، العلم والروح ..الخ كما هو حال الفسكونت المشطور في رواية كالفينو.  

قطعت عليه فيونا خلوته، فتحت باب الشرفة الذي راح يهتز بتواتر مع قدمها، نظرت إليه قاطبة حاجبيها كما لو أنها تتحدى أن يتنفس بحضورها. وقالت بسخرية: ما الشيء العظيم الذي انجزته في هذا الوقت؟ قطب شافيل أيضاّ حاجبيه محاولاّ التفكير بإجابة لكن قبل ان يخبرها، أنّ حرية البقاء وحيداً لا تعني انه يسعى لإنجاز هدف ضخم، كل ما في الأمر إنه يرغب بالعبث في الحياة بحرية أكثر، كانت قد رحلت دون أن تسمع أي رد، فهي دوماً على عجلة من امرها..تتحرك وتنتقل من عمل إلى آخر مثل إنسان ممسوس يبحث عن شيء لا يعرفه بعد، فهي تتخذ قراراتها بالانتقال من الطبخ إلى مشاهدة التلفزيون ، والهاتف ثم إليه بسرعة وكأنها مدفوعة برغبة مجنونة بالتواجد في كل مكان، على عكسه هو الذي يميل إلى العدم ويشعر باضطراب من اتخاذ أي قرار، وينتقل ببطء شديد لدرجة تشعر بأنّه ثابت أو أنّ قراره وانتقاله لا أهمية له بعد كل هذا التأخر. فكّر أيضاً، أنهما ربما يكونان متشابهان بطريقة ما، فكلاهما يشعر بأن الوقت يهرب منهما ولكنها ترغب بالشعور بالزمن عن طريق التكثيف لدرجة انتهاكه الذي يفضي إلى اللاشيء أمّا هو استسلم لهذا الضياع بالوقت وتوقف عن فعل أي شيء.

أصبح الجو بارداّ، فكّر شافيل بالدخول لكنه تذكر أنه بالأمس، اقترح عليه اليوتيوب، عدة مقاطع لأغنياء يجلسون في برميل من الثلج، بشكل اختياري لسبب غير مفهوم أو ربما هم ايضاً فقدوا احساسهم بالوقت وفقدوا بذلك عقولهم، لكن بما أنهم أغنياء فلا بد من وجود حكمة أو ربما لهذا الجلوس علاقة بالنجاح المادي الذي يتمناه شافيل ليتوقف عن العمل الذي يضطره إلى الخروج كل يوم. حاول البقاء أكثر في الشرفة الباردة لكن جيوبه الفارغة لم تسعفه.. فكّر أنه في حلب كانت الناس تخلط بين البرودة والمسافات، فهناك البرودة تقاس بالمسافات والذكريات بالدقائق.

 في الداخل، كانت فيونا لا تزال تتحرك بطريقة مكوكية، شعر شافيل بالطاقة المنبعثة من نشاطها واخذ يجري ورائها كما لو كانوا في مشهد كرتوني ساخر حيث ينتقل الأفراد فيه من زاوية إلى أخرى من الغرفة. ارتفعت حدة نشاطها وبدأت بالجري والحديث. راحت توصف منزل أهلها الريفي، للمرة الألف، على الساحل وعن كلبها الذي كانت تتمشى معه مرتين باليوم على الشط. وعن السوق الشعبي في قريتها، الذي على الرغم من ازدحامه، كانت الغربان تطير هناك بالقرب من الأرض وهي تنعق كما لو كانت متأكدة من تواجدها بمكان خالٍ من السكان.. وعلقت أنّ الغراب كان على حق فأهالي القرية كانوا أقرب إلى الأموات لأن أغلبهم عجائز يعملون في البحر، اتى عليهم يوم، وقد جفت قدرتهم على ربط عقدة الشبك، فهربت منهم الأسماك وبعد ذلك هرب منهم أولادهم ايضاّ. ثم انتقلت بالحديث عن علاقاتها الكثيرة والتي دخلتها جميعها بحثاّ عن ملاذ للهروب من أهلها لكن محاولاتها كانت فاشلة وراحت تلعن شباب الريف، الذين لم يلتزموا معها واضافت أنّ سبب ذلك هو أنهم كانوا عاجزين عن الوصول لمرحلة النضج، فهم كما هي قريتهم التي كانت تتمدد ولكن لم تستطع أن تصبح مدينة ابداً. ثم بعد ذلك أخذَ الناس بالريف يتحدثون بسوء عنها، لم تسمع الكلام بشكل مباشر لكن هذا ما كان يردده والدها على مسامعها حيث يقول لها: لقد تحولت لقحبة مثل أمّك.. ويضيف إن بنات الشاعرات كلهم قحبات.. سألها شافيل: ألم يكن والدك أيضاّ شاعراً؟ أجابت فيونا نعم لقد كان قحب أيضاً. بعد ذلك اخذت فيونا تتحدث عن كل شاب قابلته وعن الطريقة التي مارست معهم الجنس..لم يكن لشافيل اعتراض على الحديث، لكنه عندما رأى ابتسامتها المليئة بالفرح من ذكرهم، احس بألم في صدره، لم يفهم إن كان من تعب الركض وراء فيونا ام إن فرحها بأولئك الذكور بحياتها ازعجه.. وتكثفت تلك الابتسامة، التي كرهها بشدة، في ذهنه لتبقى معه إلى الأبد.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة