الفن ونفاد الصبر

الصبر. بهذه الصفة تحديداً يصبح كل منجز حياً، وأيضاً الوصول لأي هدف. الصبر هو الجزء السياسيّ من كل عمل وكل فكرة. بإمكان الجميع البدء دون جاهزية لأن الجهوزية أمر يدرك أثناء العملية لا قبلها، فليس ثمة من أحد يعرف قبل البدء كم هو جاهز لأي فعل، عمل، كتابة أو حب، لكن البدء ليس كافياً. الصبر هو ما يجعل من ظهور النتيجة أمراً ممكناً. رغم ذلك أريد الكتابة عن نفاد الصبر دون أن أنفي أيّاً مما سبق.

قرأت عند بلانشو أن نفاد الصبر هو جوهر الصبر العميق.

عندما شرعت في التفكير بالموضوع تذكرت موريس بلانشو وما كتبه عن “نظرة أورفيوس”. تقول الأسطورة أن أورفيوس فقد زوجته وظل يعزف موسيقاه مستجدياً هاديس لإعادتها من العالم السفلي إلى السطح. أعطى هاديس الإذن لعودتها تحت شرط واحد وحاسم وهو أن يتقدمها أورفيوس دون أن ينظر إلى الخلف أثناء صعوده أبداً. كان المسير طويلاً وقبل الوصول إلى النور نظر أورفيوس إلى الخلف حتى يتأكد من أن زوجته تلحق به. في تلك اللحظة، أعاد هاديس يوريديس إلى العالم السفلي أما أورفيوس فقد تقطعت أوصاله. الحكاية تنتهي بشكلٍ مأساوي للطرفين، لكن بلانشو يقول إن هذه النظرة التي دمرت أورفيوس هي نظرة ضرورية للعمل الفني. نفاد الصبر وتهور الرغبة اللذان يضعان حداً لكل اتفاق وقانون ونظام هما صَميم: الإلهام الفني.

استحضار بلانشو يسوّغ الكتابة المتشظية والانتقال من مكان إلى آخر أو إلى فكرة أخرى بمجرد الرغبة بذلك، إخلاصاً لأسلوبه. 

يمكن عرض مطلق هيغل وإخفاقه الفرنسي من خلال حدث أورفيوس:

بالنسبة للقراءة التقليدية أو الأكثر انتشاراً عن مثلث هيغل -بغض النظر عن دقتها : ( فرضية <=> نقيض => المطلق) كان لا بدّ لأورفيوس الصبر والوصول إلى بر الأمان لكي يعانق (يتآلف مع) زوجته.

عند بلانشو أورفيوس هو فنان وكان لا بدّ له من النظر في ظلام العالم السفلي، لا أن ينتظر ضوء السطح. هذه النظرة المدمرة والإخفاق بسبب نفاد الصبر هي ضرورة لكل عمل أدبي وكل فن. هي سمة الفنان. وهنا مكمن الإخفاق للمطلق الهيغلي.الإخفاق المطلق.

أما بالنسبة لهيغل سلافوي جيجك ( الذي أرى أنه قرأ هيغل بعيون فرنسية) أظنّه سيقول: لو أنّ أورفيوس تابع السير، وهذا ما كان عليه فعله، حين خروجه لم يكن ليجد زوجته خلفه، وسيتمزق بكل الأحوال.

ثمة احتمال آخر وهو أن يوريديس لم تكن خلف زوجها من الأساس، الآلهة لم ترسلها، وكان لا بدّ لأورفيوس النظر في الحقيقة المظلمة وعدم الصبر إخلاصاً لروحه وبحثاً عن الفن. هكذا يتمزق في الظلام ولا ينتظر النور. الفن يخرج من الموت في الظلام، ذاك الموت الذي لا إعلان فيه ولا جمهور.. هكذا يموت بلا نهاية. الموت الخالد. بالنسبة لبلانشو الموت نفسه يتضمن الخلود لأن المرء حين يموت لا يمكن أن يموت مرة أخرى.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة