(اللا-حدود) الفكر والأدب

في منشور سابق (حول الإبداع والنقد) أشار الدكتور خالد حسين إلى اختلاط الحدود بين النقد والفلسفة والأدب، وذكر عدة أسماء لفلاسفة ونقاد، وطبعاً أتفق معه تماماً حول هذه الأسماء وعلى وجه التحديد دريدا، باتاي، بلانشو .. ويمكننا إضافة العديد من الأسماء الفرنسية التي قال عنهم الفلاسفة الانكليز (جماعة اوكسفورد) أن هؤلاء أدباء وليسوا فلاسفة وطبعاً أغلب المشار إليهم قد كتبوا حقيقةً روايات (سارتر، دوبوفوار، باتاي، بلانشو…)، لكن لندع الإنكليز ونكاتهم ولأحاول فهم وتقديم وجهة نظر فلاسفة اللا-حدود أنفسهم حول الأمر، وسأبدأ مع دريدا وهايدغر – وقد أعود لاحقاً إلى أسماء أخرى. النقاط التي وجدتها إلى الآن: 

أولاً. ظهور ثنائية النزعة الكلية / النزعة النسبية وغياب النسق عن الفكر الفلسفي: هو ما طمس الفروق بين الخيالي وغير الخيالي، فلم يعد ثمة معطيات محددة ولا التزام بالمنطق ولا التزام بمبدأ العلة ولا تصوّر مسبق حول ما سوف يصل إليه المفكر من خلال تحليله. هذا الانفتاح على ما لا يمكن توقعه والارباك الحاصل نتيجة له هو بالضبط ما جعل الفكر أدبياً. وثمة أمر آخر لا أدري مدى دقته في حالة دريدا لأن أفكار دريدا مربكة بحق لأنه في لحظة يبحث عن الدال وفي مكان آخر يسلم بأن النص الأدبي ميتافيزيقي مثله مثل النص الفلسفي، لكن فيتغنشتاين أنطلق في تحقيقاته الفلسفية بمقولة لغوته تقول” في البدء كان العمل“، أي هناك معيش يسبق الفكر ويسبق اللغة وهذا المعيش ليس مجرداً ولا نظرياً بل هو أدبي للغاية وبناء عليه بالإمكان تجازواً قول أن الأدب هو بداية الفكر.

لا بد هنا من توضيح نقطتين: 

أن غياب النسق غالباً ما يفسر على نحو عدمي لكن هذا غير صحيح عند هايدغر وكذلك دريدا؛ فالنسق لا يغيب بشكلٍ كلي لأنه في اللحظة التي يلتزم فيها هايدغر في شرح شيء -كما يوضح دريدا- ويريده مفهوماً” نراه يتصالح مع التصور النسقي المنطقي للتماسك“ وهدف التماسك هنا هو ”ارتباط أو تصالح أو تفاوض مع شيء آخر لم ينظر فيه بعد“ وهذا الذي لم ينظر فيه بعد هو ما يجعل من التنظير الفكري أدبياً لأنه غير متوقع. 

يعني شيء من قبيل مهما كانت القصة عبثية والعالم منشطر ومتشظي لكن لا بد للروائي من وضع منطق لعالمه حتى يتمكن القارئ من دخوله وفهمه ويتمكن هو نفسه قبل القارئ بالوصول بشخوصه إلى اكتشاف لم يكن معروفاً له وهذا المنطق الذي يضعه الروائي لعالمه هو لحظة التصالح مع النسق.

والنقطة الثانية هي أن ليس كل فلاسفة النسق كانوا يعرفون النتيجة التي سوف يخلصون إليها بشكلٍ مسبق، بل بعضهم كان يقيم الحجج إلى أن يصل إلى شيء لم يكن له به معرفة في بداية مشواره التحليلي وهذا ما يجعل بعض كتابات هؤلاء صعبة لأن المفاهيم والأفكار والنتائج غير محددة من البداية ومن هؤلاء الفلاسفة “هيغل” بكل تأكيد، ولا أدري إن كانت هذه الكتابة أدبية بأي حال مع كل المنطق والعلل التي يقدمها هؤلاء الفلاسفة في كل خطوة.

ثانياً، الغيرية والآخرية: وهي نقطة بالضد من الفلسفة المثالية للوجود التي انشغلت وانطلقت بشكل مستمر من” المعنى“، وسؤالها الفلسفي كان ابستمولوجياً باستمرار وهمها المعرفة بينما يرى كلٍّ من دريدا وهايدغر أن ما يجب أن نشغل أنفسنا به هو” الآخر “والآخر هو سؤال الوجود… وجوده الذي لا معرفة لنا به بعد ولنكشف عنه يجب التخلي عن كل معرفة مسبقة وشائعة. مرة أخرى غياب المعرفة المسبقة وعدم وضع افتراضات وانتظار الكشف عن مخبوء غير متوقع كلها تتطلب الأدب جنباً إلى جنب مع الفكر. 

ثالثاً، اللغة: بلوغ هذا الآخر “الذي هو أبعد من اللغة والذي يستدعي اللغة“ لا يمكن أن يكون باللغة الفلسفية إنما يتوجب استخدام لغة الكشف عن غير المتوقع، اللغة الأدبية. صحيح أن هايدغر ألحق سؤال الفن بسؤال الحقيقة لكنه يقدم للحقيقة تصوراً يعدّه أشد أصالة من الحقيقة الفلسفية الكلاسيكية (تطابق عبارة خبرية مع شيء موجود في الواقع) وتصوّر هايدغر للحقيقة هي “الكشف” و”غياب الخفاء” لظهور الشيء ل(الكينونة) وما لم يكشف عنه لا يعد حقيقةً والكشف لا يمكن أن يكون بلغة فلسفية (لغة الوعي) إنما لا بد من استخدام اللغة الشعرية – حسب هايدغر. 

رابعاً، الحوارات الفلسفية: ويمكن عدّ محاورات أفلاطون نص أدبي عظيم لأنه ينطلق من نقطة حرة دون توقع مسبق لما يمكن الوصول إليه، فهي عبارة عن قول فلسفي يقابله قول فلسفي آخر ويتم من خلال هذا التقابل توليد قول غير متوقع. وكل ما هو غير متوقع هو أدبي كما هو فكري.

( النقاط الأربعة مستقاة من الفصل الأول لكتاب ممتع وسهل قياساً للأفكار الصعبة التي يتناولها المؤلف واسم الكتاب ”التفكيك والأدب – تيموثي كلارك“، ترجمة حسام نايل )

نهايةً:

عدا عن نقطتين لا أعرف مدى اقتناعي بهما، حيث أرى أن هناك غير متوقع فكري محض وكذلك أرى أن هناك لغة تحليلية وظيفية قد تكشف عن الوجود، فإن غياب الحدود بين الفلسفة والأدب والنقد كان نتيجة لفكرتين متعاكستين إما الاعتقاد بالوصول إلى المطلق ونهاية التاريخ وغياب الصراعات ولم يعد هناك حاجة لأي فن ولا فكر نسقي، وإما على العكس تماماً وهو استحالة الوصول إلى المطلق، أي الشعور بالإحباط الدائم لإدراكنا حقيقة أن الإخفاق هو الواقعة الوحيدة للبشرية وليس أمامنا سوى عيش المأساة والذهاب بها إلى أبعد حد وهي حالة باتاي وبلانشو ..الخ. ونتيجة لذلك اختلطت الحدود وأصبح التعبير بلغة واحدة فلسفية أو أدبية على شكل منفصل لا حاجة لها كما أنها تقلل أساساً من القدرة على “تملك المتبادل” للوجود أي الكشف عن الكينونة حسب هايدغر. 

أؤمن تماماً بكونية الأفكار والأدب، لكن أخمن أن سؤال الوجود قد يختلف من مكان إلى آخر، وأرى أن سؤالنا كمنطقة لم يصل لأي خلاصة بعد، هذا على الصعيد الفلسفي. أما في حالة الأدب، فظهر التجريد في الأدب غربياً لأسباب عدة وأجد أن وجوده في كل مكان بالعالم مهم لإعادة سؤال الوجود ولكن هناك شيء آخر في حالة الأدب الغربي وهو أنه لم يعد هناك الكثير من القصص المثيرة للاهتمام، طبعاً هذا لا يعني أن الأدب الغربي اليوم غير جيد، لا أبداً لكن الاثارة أصبحت أقل توافراً وثمة أسماء قديمة تستطيع إلى اليوم التعبير عن الواقع الغربي الحالي وعلى نحو أخص أسماء مثل كافكا وجويس وبروست .. الخ والنقاد هناك ما يزالوا يناقشون هذه الأسماء لما فيها من عمق التعبير عن حالة العصر ولا حاجة لهم بأكثر من ذلك، أما في منطقتنا أجد أنه ما يزال هناك الكثير والكثير من القصص المهمة والحكايات المثيرة التي من الممكن الاشتغال عليها أدبياً لأننا كمنطقة – للأسف – لا نزال نشهد تقلبات ضخمة وحوادث كارثية من ثورات وحروب واستعمار وهناك العديد العديد من الضحايا التي تحمل قصصاً يمكن روايتها. إضافة إلى كل هذا هناك الآخرية الديريدية نفسها إذا كان سؤال الغرب اليوم هو “الآخر” بعد أن تشبع بنفسه، فسؤالنا نحن “الأنا” و”الآخر”، ونحتاج الكثير من الفكر والأدب لنعرف أنفسنا والآخر. وعلى هذا كله، أرى أنه لا يزال لدينا الكثير أدبياً يقال بشكل إبداعي محض وكذلك لدينا الكثير ليقال نسقياً وفكرياً وفلسفياً بشكل تحليلي لا أدبي، أتفهم الفكرة المطروحة حول لا حدود بين الإبداع والفكر لكن مع تحفظ كبير، لأني أرى التمايز وأرغب في تحديد المسمى.

 

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة