المشهد يبدو مرعباً. ليس تماماً. تمعن فيه. لنكشف عنه؟

 ”رأيت غير بعيد عن المكان/ الذي غلبني النوم فيه، نورا/ تغلّب على وجه الظلمة“  دانتي

هناك موضوع لم يتبلور في ذهني بعد كيفية الدخول فيه. لكن أستطيع القول أنه عن قراءة الأعمال المأساوية. التي أحياناً تحتوي على جرعات تراجيدية أكثر مما تكون عليه التراجيديا عادة. السوداوية. التي يختلف وقعها في النفس من قارئ إلى آخر، منهم من يصل لحد القول أنه لم يستطع إتمام العمل الأدبي لما أحدث في داخله من كآبة، وظلمة. نفس العمل يكون وقعه مختلفاً على قارئ آخر. كيف يحدث هذا التفاوت؟ 

النقطة الأساسية في الموضوع، تتركز حول كيفية قراءتنا. هناك من يفتقر إلى مهارة التعامل مع الروايات على أنها ”نصوص فنية“. فيقرأ الرواية كما لو أنه يقرأ خبراً في جريدة عن أناس حقيقين. ويمكن أن لهذا الأمر شيءٌ متعلقٌ في بنية الرواية نفسها، إذ لا يمكن للمرء أن يتابع الحبكة القصصية في عملٍ ما دون أن يبني صورة للشخوص في ذهنه، بنفس الطريقة التي نبني بها علاقاتنا ومعرفتنا بأناس حقيقين من حولنا. والشيء نفسه نراه يتكرر عندما نتحدث عن نصٍ ما، فنتحدث عنه كما لو كان حدثاً حقيقياً، ربما لأنها الطريقة الوحيدة للتحدث عن محتوى الرواية والقصة. وقد تكون هذه النقطة هي الخصوصية التي تميز الرواية عن غيرها من الفنون. لكن هناك شيء ناقص في هذه الطريقة من التعامل مع النصوص. شيء يحكم الأدب بمجرى الحياة اليومية والواقعية. وأرى أن هذا صحيح في حالة النص التوثيقي. أما النص الأدبي-الإبداعي، فيتمتع بخصوصية ترفعه عن الواقع. يتمتع ببعده الخيالي الذي يخلق عالماً يختلف عن الواقع. أكثر من ذلك، يخلق حدثاً لا يمكن أن يحدث حقيقةً. فنرى ”سهام“ إحدى شخوص المجموعة القصصية ”تلة يسكنها الأعداء“ تنظر حولها، بعد أن يُقطع رأسها بالفأس، تبدأ بوصف محيطها، فالرأس هنا تتمتع بقدرة العيش بعد فصلها. وهذا ما لا يمكن أن يحدث في الواقع، أليس كذلك؟ ثم يتبع هذا الوصف سردٌ لحياة سهام. البعد الواقعي للقصة هنا هو أن سهام قد ماتت. البعد الخيالي أن الرأس تمكن من البقاء حياً، وأن لسهام صفات، قدرات، وحياة يمكننا سردها، أي استمرارها. البعد الواقعي هو الموت. الخيالي هو الحياة. الأول يدخلنا في السواد، الثاني ينجينا. عدم قدرتنا على رؤية الثاني اعتبره افتقاراً وخللاً في القراءة. عندما قرأت قصة ”سهام“، أرسلت صوراً لصفحاتها إلى صديق وطلبت منه قراءتها. عند الانتهاء، أخبرني أنها قصة جميلة. أجبت: نعم لكنها مأساوية. سألني لماذا؟ أجبت لأنها قُتلت. قال لم أنتبه إلى أنها ماتت. قد يبدو الموقف مضحكاً. كيف لم ينتبه؟ ربما لم يقرأ بتركيز جيد. لكني أرى للأمر تفسيراً آخر. أن الأدب ينتصر للحياة. للسرد قوة تتغلب بها على الموت. يمجد حياة الشخوص. حتى في أشد لحظات الأدب تدميرية، نراه يبني. يبزغ شيء ما من داخل هذا السياق السلبي الذي يشتغل عليه. ينشر الأديب السلبي، لننال الإيجابي. من الايضاح. حتى النفق الذي لا ضوء في نهايته. يكسب إشراقاً متفجراً، بعد أن كشف عن المعاني المخبوءة. وظهرت الحقيقة. أرى أن هذه القوة، من الهدم وإعادة البناء، هي واحدة من المزايا الأصيلة في كيان الأدب. لكن ظهور هذه المزية تتطلب قدرات إبداعية من الكاتب وكذلك إمكانيات التلقي في الطرف الآخر. 

(افتقارنا للحس بالبعد الواقعي، يجعلنا غير إنسانيين، كما هو الحال في افتقارنا للحس بالبعد الخيالي).

في حالة، الأعمال الأقل مأساوية من سابقة الذكر، لكنها لاتزال سوداوية بما يكفي، لتسود على القارئ الواقعي عيشته. وهي بالغالب أعمال أدبية جانبها السوداوي يحمل ضمناً جانباً هزلياً لا يجب إغفاله عند التلقي. على القارئ أن يتمكن من إدراك المأساوي وتلمس الفكاهي. كما هو الحال مع مسخ كافكا. إن إحساس المرء أنه حشرة بالتأكيد حدثٌ مأساويٌ. لكن في الوقت نفسه خبر أن هناك من أستيقظ في الصباح، فوجد نفسه حشرة، أمر مضحك لاستحالة حدوثه وغرابته. وهذه الحالة تتكرر في معظم أعمال كافكا، التي يراها البعض على أنها كئيبة إلى حد كبير. إلى حد غير محتمل. بالتأكيد الشكل العام لأعماله وجانبها الواقعي وتفسيراتها تحمل الكثير من الرؤية السوداوية لحالة الإنسان المعاصر. لكن كافكا تمكن عن قصد في تقديم هذه الرؤية مع حس ساخر وهزلي عالٍ. تقصّد ذلك.

تجسد الرواية،بشكلٍ عام، نسيج الحياة في تناقضها المأساوي والفكاهي، الهدم والبناء. رسم مشهد خلاب في موضع حقير. فعلٌ خيّر في مشهد شنيع. حدث غامض في وضح النهار. حدث انفعالي سريع في مشهد ساكن. نسيجٌ فني يجسد تناوب تفاعلي لمشهد يحوي تناقضات. ندرك من خلالها هشاشة الواقع واستمراريتنا. حركة لامتناهية. في فضاء المطلق.

(يقال أن كافكا (الكاتب الليلي) أثناء كتابته لإحدى أعماله، أخذ يضحك بصوتٍ عالٍ، لدرجة أن جيرانه استدعوا الشرطة لما سببه لهم من ازعاج بسبب الضحكات التي كان يطلقها).

الحالة الأخيرة. في بعض الأحيان يربط القارئ العمل بكاتبه. خاصة في تلك التي تبدو واقعية بشكلٍ كبير. مأساوية، لكنها ليست استثنائية. تتكرر. منطقية. في بعض الأحيان طريقة السرد توحي بحقيقية الحدث. توثيقية مثلاً. فيحزن القارئ ويستصعب إكمال القراءة ليس لسبب أدبي، إنما لسبب إنساني بحت، يحزن لحال الكاتب وما مرّ به. هناك عدد لا بأس به من القراء الذين يربطون العمل الابداعي -المأساوية منها أو غير ذلك- مع حياة الكاتب. دعونا نتفق أن قراءة الرواية، تطلب منا خداع أنفسنا. أي نعرف أنه خيال لكن نتعامل معه كواقع، بنفس الطريقة التي نشاهد فيها الأفلام. إذن كلّ قصة هي سردة خيال. هناك طبعاً الحالات التي تكون فيها الرواية فعلاً سرداً ذاتياً. أي أن الكاتب يكتب عن حياته الحقيقية. حتى في هذه الحالة أرى أن على القارئ أن يقلب المعادلة السابقة أي: يدرك بأنه حدث في الواقع لكن يتعامل معه على أنه خيال. وهذا صحيح في النهاية، فلا توجد رواية تحكي عما حدث بالفعل. حتى السيرة الذاتية، تحتوي على قدرٍ من الخيال ما يكفي، ليبعث الحياة في تلك الشخصيات ”الواقعية“ على الورق. وكذلك عامل الزمن. الحياة العادية بطيئة في أحداثها. رتيبة. أما الزمن في النصوص فهي أسرع رتماً، صحيح أن كل عمل يحتاج زمناً كافياً لبلورة الحدث، لكنه غالباً أسرع وأكثف من الواقع بمرات.

أكثر من ذلك، وبشكل شخصي جداً هذه المرة، أتعامل مع الكتّاب كما لو أنهم شخصيات أدبية أكثر من كونها حقيقية. وهذا دقيق، نوعاً ما، خاصة في حالة الكتّاب العظام، عندما تقرأ عن حياتهم الشخصية تجد أنهم ليسوا أقل غرابة عن شخوصهم الروائية. راسكلينكوف شخصية أدبية-فنية كما هو حال دوستوفيسكي، بالنسبة إلي. وأعتقد في هذا ما  يفسر كيف أن قراءة السير الذاتية، عند البعض، متعة. وعند آخرين أمراً مملاً. فلا أحد يرغب في سماع ثرثرة إنسان ”واقعي“ وتفاصيل حياته المملة في صفحات مطولة وبدون توقف.

( أحرق شكسبير كل يومياته، لم يكن يرغب في أن يعرف عنه القراء أكثر مما قد نستنتجه عنه من أعماله. أراد أن يبقى حياً في شعره ومسرحياته. أن يبقى كائناً إنسان-فنياً أكثر من كونه إنساناً).

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة