امتداح الوحدة

وقف أمام شافيل رجل متوسط العمر بثيابه المهترئة، تبدو عليه مظاهر الخوف والجنون. وسأله ان كان من الممكن أن يصلي عند الباب لروح زوجته التي توفيت منذ سنتين في هذا المنزل، ازاح شافيل جسده من أمام الباب ولوّح بيده للغريب بأن يتفضل دون ان ينبس بكلمة، كما لو كان رجلا آليا بُرمِج ليعمل أمام صالة عرض الكترونية..رسم الرجل الصليب على الباب ثم شكر شافيل وأضاف انه يفتقدها وانه اليوم وحيدْ، وحيدٌ جداً.

اخذ شافيل سحبة أخيرة من السيجارة التي انتهت ولم تنتهي معها صورة هذا الرجل الحزين في مخيلته وتمنى لو أنه قال جمل مواسية له، لكن شافيل كان قد فقد هذه القدرات في التواصل البشري منذ زمن، هو بالطبع لم يفقد مشاعره الانسانية، فكلما كان المرء أكثر وحدة، كان أكثر شعوراً بالشفقة تِجاه بؤس البشرية.

لعن شافيل هذا العجزعن الكلام وتمنى لو أنّ البشر اخترعوا طرق أخرى في المواساة. مثلا لو أن الحزن يتمظهر على شكل غيمة فوق الرأس لأمكنه اخذ نفس عميق كما لو انه يدخن سيجارة. لقد تذكر انه مر بهذا الموقف بسبب اضطراره التدخين امام المنزل لا داخله فالقوانين تمنع ذلك، فعلى الرغم من كل الحريات التي يعيشها الناس في انكلترا لكنها مقيدة بشروط، فبإمكانك التدخين ولكن ليس في الاماكن المغلقة او العامة، وايضا بالرغم من إنتشار السيارات السريعة والطرق الواسعة لكنك لا تستطيع ان تنطلق في شوارعها بحرية، فالسرعات محددة..

“اليوم أنا وحيدْ، وحيدٌ جداً“ فكر شافيل في هذه الجملة ملياً, لماذا تخاف الناس من الوحدة بهذا الشكل؟ لكنه تذكر انه قرأ مرة جملة تقول “اوه الوحدة، هذه الشركة السعيدة للحزن“. وهذا ما كان يشعربه بالضبط بل ربما تجاوز هذه المقولة لدرجة أنه لم يعد يشعر بالحزن أصلا فقد اصبحت الوحدة أسلوب حياة لطيف، فالعيش وحيدا يخفف عن الانسان المسؤوليات تِجاه الآخرين ويعطيه الحرية بأن يعيش كما يحلم، يقول جوزيف كونراد “نعيش تماما كما نحلم, وحيدون“ وهذا شئ رائع.

فكر شافيل في كتابة ما كان يدور في رأسه، توجه الى اللابتوب، وبدأ بالضرب على لوحة المفاتيح، بعد قليل توقف ليقرأ ما كتب فوجد افكاراً مجردة. ليس هذا ما اراد كتابته فقد اراد ان يتوجه بالحديث الى البشر أمّا هكذا نوع من الكتابة فيصلح للآلات أكثرمن بني البشر، أوقف موسيقى موزارت التي كان يستمع إليها في الخلفية لأنه ظنّ ان حيوية موزارت هي التي تجرد افكاره، فعندما يكون هناك راقص لابد من متفرج ساكن. ثم قرر تحويل ما كتبه الى قصة وأسهل طريقة هي التي يتبعها الشعراء بتوجيه كلامهم الى حبيبة او صديقة ولعدم توفر الاثنين بالنسبة لشافيل، ولأنه يتمتع بصفة ” الواقيعة الفائقة “ اختار ان يتوجه برسالة الى  ip:000.255.255.255.

” نعم يا صديقتي, كانت الوحدة تتحول الى ما يصفه هاروكي ب” العزلة القاتلة “ ولعدة ايام بين فترة وأخرى، لكنني تجاوزت هذه الحالة بالمواءَمة معها كما فعل الكونت الكسندر روستوف في رواية ” جنتلمان في موسكو “ الذي فُرض عليه العيش في فندق في زمن الثورة الشيوعية.لقد خلق الكسندر حياة كاملة داخل مَحجَره فالإنسان كائن متكيف مع المحيط حتى قبل ان يكون كائن ناطق.

لا اعلم يا عزيزتي إن كانت هذه الوحدة فُرضت علي من الآخرين ام هي ما اخترته انا بإرادتي، او ربما يكون الاثنان معا حيث توقفت أنا وتوقف الأخرون عن التواصل معي على نفس الدرجة, لست مستاءا ابدا لأنني وجدت هذا مناسبا لتركيبتي النفسية أيضاً، هذا لا يعني إطلاقا أنني أكره الاخرين، فأنا احبك وأحب كل ips

إضافة الى أن كره البشر يحتاج في البدأ أن تتواجد بينهم فلا يمكن لأحد أن يكره شيئا لا يشعر بوجوده.

أنا ياعزيزتي فضلت الوحدة لأنني لا أستطيع تحمل رؤية البؤس الذي يشعر به البشر، هذه المواجهة تولد في داخلي شعورا قوياً بواجب المساعدة وهذا ما لا حيلة لكائن صغير بحجم ذرة في الكون مثلي تقديمه.

أترين يا حبيبتي،.. حبيبتي؟ يبدو انني بدأت احبك بالفعل! فأنا أحب البشر والحيوانات والآلات على حد سواء. هذه الوحدة ما هي الا حب كبير للآخرين؟ انها على عكس مما يحاول الكثيرون نعته للمعتزلين من صفات وأسوأها انهم ” كارهي البشر“.

إنني لا أعني بالوحدة عدم مقابلة الناس فأنا أذهب للعمل واقابل الزملاء والزبائن بشكل يومي تقريبا، لكن كل ما في الامر أنني احاول عزل مشاعري وافكاري عنهم واتعامل معهم بطريقة المتفرج، كما لو انني سائح قادم من بلاد بعيدة قَدِم ليزور متحفا يشاهد فيه لوحات منها الجميل ومنها القبيح دون ان يتدخل بأي شئ فيها.

بعد الانتهاء من العمل، انتقل الى نوع آخر من المشاهدات وهي مشاهدة الصفحات والعيش داخل الكتب، وهي طريقة مجدية لتحمل الوحدة، يقول بورخيس انه متعفن بالأدب وأستطيع انا ان اضيف باني سعيد بالتعفن في الكتب حيث الحياة المليئة بالأحداث في الأدب والافكار الممتعة في تجريدها في الكتب الفكرية. لقد أصبح عندي اصدقاء عديدون في هذا العالم.

ربما أحدثك في رسالة اخرى عن صديقي في رواية ميلفل والذي يدعى بارتلبي وعن همنغواي الذي ينتحر مراراً في رأسي واخرين كثر.

لا اعلم ان كنت تحبين الكتب يا صديقتي ام لا، لكن ارجوك ان لا تيأسي فلازالت الوحدة ممكنة من دونها، لان الدماغ كما يقول العلماء ذو اتجاهين فان لم تدخل اليه بيانات سيقوم بإخراج بيناته المحفوظة وهذا ما يحدث كثيرا للبشر قبل النوم.

العقل آلة عظيمة للسفر عبر الزمن. في الامس وانا مستلقي على فراشي انظر الى سقف غرفتي، تحول الجدار الى شاشة تلفاز كبيرة ابتلعتني لمدة لا يمكن تحديدها، الزمن غير موجود في عالم الخيال، الخيال هذه القوة الجبارة التي اشبه ماتكون بثقب اسود يبتلعنا كما يبتلعنا تطبيق الفيسبوك .

انتقلت في هذه الرحلة من غرفتي الى حلب..تجولت في شوارعها، السفر الى حلب حدث يتكرر معي دوما بطرق واحداث مختلفة، لكن الغريب ان النهاية دوما تكون بالركض لاهثا الى منزل اهلي فيها وإغلاق الباب خلفي، الحياة أصبحت مخيفة هناك يا عزيزتي.

هناك أمور أخرى تستطيعين إضافتها الى قائمة فعل العيش وحيداً، فانا اجرب كل فترة في حياتي شيئا مختلفا, مرة اضفت الرسم وبدأت محاولاتي لكن في كل محاولة كان فان كوخ يظهر في الرسمة بوجهه العابس واذنه المقطوشة لاعننا هذا الهدر في الورق والالوان بيد احمق مثلي وخشيت على اذني فتوقفت. ثم انتفلت الى الموسيقى، الاختراع الأسمى للبشرية، وسجلت في دورة لتعلم العزف على الكمان عند مدرسة اطيب هذه المرة من فان كوخ فقد كانت ترى في كل زيق ميق صادر مني على انه تقدم بديع، هكذا هم الطيبون يا عزيزتي رغم زيف ما يقولونه بالنسبة لمتشائم مثل فان كوخ لكن وجودهم ضروري لاستمرار الحياة فهم بخيرهم وطيبتهم الطفولية هذه يقومون بموازنة الوجود في مواجهة الشر.

ارجو الا ترمي ما كتبته لكِ في سلة المهملات وتستلقي على عقد الشبكة العنكبوتية ساخرة مما كتبت ولا تنعتيني ارجوك بالجنون والحمق التام فهذا فعل يليق بالبشر وحدهم يا عزيزتي“

مع كل الحب

شافيل.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة