تمتمات الصمت

قرأت أنّ الصمت هو اسم الموت. لا أعرف لماذا ولكن عندما قرأت هذه العبارة فكرت، أو بشكلٍ أدق: ظننت، أنه هكذا في المرة الأولى. أما عندما يموت أناسٌ قد سبق لهم أن ماتوا بالفعل، أو هكذا بدوا وظنوا بدورهم، يصبح الأمر مختلفاً، ذاك الصمت الأبدي يصبح أكثر رعباً. يصبح صاخباً. تخرج الكلمات من تلقاء ذاتها. من الضحايا. من الناجين. يموت الصمت. تمتمات. لقد تخلى عنّا الرب. الرحمة يا رب. نوبات سعار يطلقها ذاك البعيد صوب الخير. صوب العالم.

يخرج أحد الناجين من الهاوية إلى الشاشة، يريد منه العالم أن يتحدث، أن يستخدم الكلمات. يحاول بدوره. يواصل الحديث. لا يتأثر العالم. يحرك يديه ورأسه، وقدميه. يحاول أن يعيد تمثيل ما حدث -لكن الناجين أيها العالم ليسوا بممثلين، والضحايا لا يمكن لأحد أن يمثلهم-  يتحرك بسرعة. يخرج من الشاشة. وراءه على الأرض، ظهرت صورة لزوج وزوجة، تركاها على حافة الهاوية، ليخلدا حبهما، لكن يبدو أنه لا أحد عثر على الصورة. يعود الناجي بعد رحلة طويلة من الشرح. يُطلب منه المزيد. يتحدث. سنتحدث جميعاً. سنستخدم الكلمات. سنواصل. يُسأل عن عدد الضحايا هنا؟ يستيقظ من صدمته، ليقفز مجدداً إلى الهاوية. باحثاً عن أمثاله. يسألونه من بعيد: ماذا تريد؟ مأوى. سنحاول. أو نريد من الوقت… المزيد.. وقت أكثر لنفكر إن كنا نرغب في تأمين ذلك لكم. لكن إلى حينها واصلوا أنتم في  الحديث. سنواصل.

لا أخفيكم سراً. المواصلة ليست أمراً سهلاً. بقيت لأيامٍ كثيرة عاجزٌ عن التنفس. لم أكن أفعل أي شيء. أنا البعيد. اختنقت. في الأمس توجهت إلى النافذة. لأنني أجد في النوافذ. ذاك الحد. حيث اتخاذ خطوة واحدة أمر يسير. لكن لا. سنواصل. سأبدأ من هذه الفكرة. لقد مت منذ زمن بعيد. حان الوقت لأدرك ذلك. كما أدرك ذلك الجميع. سنواصل. من هذه النقطة. من مدينة بيدرو بارامو. حيث كان واضحاً أنهم ماتوا جميعاً. سنواصل. نعيش. نتكلم. نكتب. سأحدد أكثر: ”لقد مت في أواخر العشرينات. غادرت وكأن شيئاً لم يحدث. ذهبت إلى الجانب الآخر، إلى الشارع المقابل“. ويقول جاري بدوره: ”خلال الحرب أمضيت عدة ليالٍ في المجاري، حين نسمع أصوات القصف نركض جميعاً للاحتماء. تعلمت ابنتي القراءة هناك. وعلى مر السنين، أصبح القفز إلى المجاري شيئاً لا يزعجني“. يقول شابٌ آخر يرعبه أن يخطو في العمر خطوة أخرى إلى الأمام، فيضطر أن يصبح مع هذا وذاك: ”عندما يُستدعى الموت إلى هنا. أين يختبئ كل المبارزين بمسدساتهم؟“.

سنواصل. كما لو أن كل يوم هو النهاية، تماماً كما أنه اليوم الأول من بقية حياتك، حياتهم وحياتي. نهاية التاريخ. سنواصل. دخلنا في صراعنا النهائي، الذي يبدو كما لو أنه أبداً. ماذا لو دام؟ سنواصل؟ إلى أن نخرج. أو يعثر علينا الله. نواصل. نكتشف كل إمكاناتنا في الموت والحب… إلى الصمت الأبدي.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة