“ثوب أزرق بمقاس واحد” – هيڤا نبي

إحدى سبل التعبير عن وجدان المرأة في شكل فني هو العثور على “معادل جامع” – أو ربما مجموعة من الموضوعات أو موقف أو حدث أو ربما سلسلة من الأحداث- لتكون شكلاً لذلك الوجدان ”المحدد“ الذي يخص كل امرأة كما يخص الجميع، بحيث عندما تقدم تلك الواقعة فنياً مع سلسلة الوقائع المحيطة، الخارجية منها والداخلية، يثار وجدان الجميع تجاه ذاك الحدث. وربما ليس هناك من حدث يثير وجدان كل فرد أكثر من الإنجاب وبشكل خاص كل امرأة لما فيه من تغيير كلي وخسارة لذاتها القديمة، والتحول إلى شكل جديد من العيش. وهذا ما قامت به تماماً “هيڤا نبي” في روايتها ”ثوب أزرق بمقاس واحد“ التي قدمت موضوع الإنجاب بعيداً عن تلك الصورة الإيجابية التي يحاول الكل اقناع الكل بها، دون النظر في تفاصيل الحدث والتحولات التي تصيب المرأة بشكل دقيق.

تبدأ الرواية بسيدة مستلقية في سريرها، وإلى جانبها طفلتها المولودة حديثاً. بداية حاسمة تضع الحدث المصيري من الرواية في أول مقطع، في الجملة الأولى، دون أن نعرف عن السيدة شيئاً بعد، لا عملها ولا من هو شريكها؟ هل تحبه أم لا؟ أو طبقتها الاجتماعية، الثقافية، ولا ظروف مكان إقامتها، حتى اسمها الذي يبقى مجهولاً بالنسبة للقارئ إلى النهاية. لا نعلم أي شيء بعد، وهذا بالضبط ما يجعل الحدث يخص كل امرأة، أي كونياً، لأن ما ستمر به بطلة الرواية بالصفحات التالية من اكتئاب لا يتعلق بأي شيء آخر سوى الإنجاب، لا عملها في دور الأيتام ولا الحرب ولا شريكها له دعوة بذلك، ولا حل أي مشكلة في حياتها سيحل الأمر، فهي حالة وجودية بحتة، تخص كل امرأة انجبت يوماً أو تفكر بالإنجاب أو ستنجب، كما يخص بطريقة ما كل رجل مع شريكته.

”اشتقت لحياتي السابقة“

يغير الإنجاب في ذات الشريكين، لكن بالنسبة للرجل هو شيء قريب جداً من حالة الحب، فبعد أن كان وحيداً، أصبح يستيقظ وإلى جانبه شريكة ”حبيبة“، يزيد عدد المتواجدين واحداً بعد الإنجاب، هذا موقف ديدار من مولودتهم ماڤ، لكن بالنسبة للسيدة، بالإضافة إلى ماسبق، هناك أمر فقدان ذاتها السابقة. حيث أن الإنجاب ليس موضوعاً خارجياً كما الحال بالنسبة للزوج، إنما هو موضوع داخلي وخارجي -ثنائية تظهر طول العمل- الولادة ليست عبارة عن تغير في العالم الخارجي، بمعنى أن كل ما يحتاجه الأمر هو موضوع اعتناء ومسؤولية وحب، فبالإضافة إلى ذلك حدث تغير في داخلها، في علاقتها مع نفسها، وخسرت ذاتها القديمة وظهرت ذات جديدة. هذا ما يدخل السيدة في حالة اكتئاب يسمى عادة ”اكتئاب ما بعد الولادة“ وتحليل الحالة موجود في هذا الاسم الطبي، فكل اكتئاب هو فقدان في الذات، يرافقه كما يحدث مع السيدة في الرواية من ضعف ووهن في الطاقة كلما زاد الاحساس بتلك الخسارة الكبيرة للذات السابقة، لدرجة تدخل في حالة من التوهم لشبح يظهر من خلفها يحثها على قتل نفسها. الشبح هنا، كما أعتقد، هي ذات السيدة السابقة. في إحدى قصص ديستوفسكي يتحدث عن أن وعي المرء يبقى حياً بعد موته مدة ثلاثة أشهر، أي أن ذلك الوعي يعيش بشكل شبحي (حي-ميت) الى حين انتهائه بشكل تام. وهذا ما حدث مع ذات السيدة السابقة التي تظهر على شكل شبح، لكن هنا تبقى أربعة أشهر، تحاول فيها استرداد جسدها لتعود إلى الحياة، لكن كيف؟ من خلال قتل الذات الجديدة، بدفعها للانتحار لتسترد جسدها. ما ساعد على ظهور الشبح واستمرارها في ذهن السيدة هو تشظي ذاتها الجديدة والتي يرغب جزء كبير منها، بالعودة، فعلاً،  إلى حياتها السابقة، إلى جسدها كما كان فهي لا تتعرف على هذا الجسد الجديد في كل مرة تصادفه في مرآة، فتنظر وتستغرب تلك التبدلات.

” أعدت النظر إلى النافذة فعاد الصوت للقول: ”جربي“ ”

من البداية، تُقلق النافذة الموجودة، في غرفة النوم، السيدة. ربما تلك الغرفة بالتحديد لما تمثله من نقطة بداية لذلك التشظي النفسي والجسدي. تحاول البطلة تجنب تلك النافذة قدر الإمكان، تفكر بإغلاقها نهائياً بالقضبان أو نقله من مكانه، تطلب ذلك من زوجها الذي لا تساعده ظروفه على تنفيذ مطالبها، كما أنه لا يفهم سبب ذلك الطلب من أساسه. ولأن الشبح أكثر من يعرف السيدة، فيطلب منها القفز، لتنهي حياتها، وفي مواضع أخرى التخلص من الطفلة، فالذات السابقة إما أن تعود أو يموت كلاهما ”العودة إلى بدائية الجسد ممكنة“. أما الذات الجديدة، فإن تشظيها يدفعها دفعاً إلى الرغبة بالسقوط أو الارتطام بشكلٍ قاسٍ بجسد لتقتل إحدى الذاتين لتعيش الأخرى أو تموتا كلتاهما. ” أن أقفز متحرّرة، بعد مترين من الألم سأغسل وجهي وأعود إلى توازني السابق“.

”كرهٌ كبيرٌ للعالم الذي لم يسعفني على فهم نفسي أو فهمه في أية لحظة“

الرواية ليست واحدة من تلك الروايات التي تحوي الكثير من الأحداث، بشكل أدق هي ليست حكائية، بل هي رواية استكشافية، فبعد أن تمرّ الشخصية بأكثر حدث طبيعيةً، تتراجع وتنفصل عن الطبيعة. تعود إلى أغوارها لاستيعاب مكنوناتها -الداخل- كما إنها تساءل العالم أيضاً -الخارج- من جديد لفهمه. فالأشياء لم تعد متناغمة أو تبدو متنافرة بشكلٍ فظيع وغير منسجمة. ذلك الثوب الأزرق – اللون يشير إلى الذكور- بمقاس واحد لم يعد مناسباً، فهو كون قُدّم من الذكر وله. تحاول الكاتبة فك تلك المتناقضات أو إعادة تفسيرها على الطريقة السارترية، التقليدية نوعاً ما، فالكاتبة، كما سارتر، تحاول شرح كل شيء، تقدم المفاهيم على شكل ثنائيات: الداخل والخارج، المتناسق والفوضوي، الطفولة والانتماء، الحب وعلاقته بالفرح، التبني والإنجاب.. حتى التفكير نفسه تحاول الكاتبة إعادة التفكير به ”هل يفكر أحدنا بإرادته أم مرغماً؟“.

لاستيعاب هذه الرواية ينبغي الاقتراب منها، ومن تلك الثنائيات، بنفس الطريقة التي نقترب بها من اللوحات التشكيلية، وعلى وجه الخصوص التجريدية، فهي عمل تجريدي، معرفي بشكل خاص.

“تذكرت أن آخر معركة لي كانت نتيجتها أن اتساق الرجال مع العالم ناجمٌ عن توافق العالم معهم لا العكس. وهذا التوافق لم يأتِ من فراغ، لم يكن يوماً قدراً أو طبيعة بل تطور عبر الزمن وفق حاجة المتحكمين. وهكذا فإن شيّدنا عالماً على قياس مكونٍ  واحد، فهذا سيسمح لكل جزءٍ من هذا المكوّن أن يكون في مكانه الصحيح وعلى أرضه بكل يسر، أما المكونات الأخرى التي تنتمي للمكان دون أن يكون الأخير قد شيّد وفق مقاساتها، فإنها ستواجه على الدوام صعوبةً في التوافق والتأقلم مع العالم“

“في وسط العمر، في الحد الذي يجد فيه الإنسان نفسه مقذوفاً بحزم وجديةٍ من عالم الشباب نحو النضج الأكيد، في سنٍّ تصبح فيه الخيارات قاب قوسين أو أدنى. يصبح تضاؤل الخيارات مع الوقت مزية وإيجابية، فمعها يظهر الجانب الحقيقي في الإنسان، يصبح المرءُ حقيقياً. الخيارات المفتوحة لا تصنع بشراً حقيقيين غالباً بل قردةً واهمية برؤوس كبيرة”

“كيف يُجرب الحياة من تآلف مع القفص؟”

“لأني غير قادرة على قول ما أشعر به أختار أن تتحطم أضلعي! ”

“ما غايتي بالضبط؟ أن يفهم الآخر معاناتي أم أن أشفى من آلامي التي لم أعرف لها اسماً؟ “

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة