دوامة العتمة

”العازب ليس أنانياً، إنه فقط شخص لا قدرة له على تعذيب أحد“ .

تظهر هذه العبارة على شاشة الموبايل، بينما أنا غارق في قراءة هنري ميلر. الذي عدت إليه بعد أن كنت قد حذفت كل كتبه من حاسوبي وذلك بعد سوء تفاهم بيننا. حيث تعرفت عليه من خلال أحد رواياته، التي وجدته فيها يكرر كلمة قضيب ثمانية عشر مرة في صفحتين. محطماً، بذلك عدد المرات التي يكرر فيها انكليزي، يلبس بيجاما في الشارع، هذه الكلمة في حديثه. قرأت أنه تلقى عدة رسائل يطلب منه القراء صورة لقضيبه بعد الانتهاء من قرائتهم لروايته تلك. عدت إلى ميلر بعد أن حدثني صديق عن روايته ”شيطان في الجنة“. تحدث عن أسلوب هنري ميلر الدقيق والمكثف في وصف شخصياته، بقوله ”يلعن ربه لا يمكن لأحد أن يكتب بهذه الطريقة“  حيث يستطيع القارئ أن يعرف كل ما يحتاج معرفته عن الشخصية في سطر واحد. عندما بدأت قراءة الرواية ادركت مدى دقة ملاحظة صديقي.. حيث يأخذ هنري دور عالم نفس وفيلسوف، يستفيد من ذاته الأمريكية ويمزجها بروحه الشرقية ليعطي للمادة بعداً ميتافيزيقياً وكذلك يمسك الأرواح من ياقتها ليعيدها إلى حجمها المادي. روايته قليلة الأحداث كثيفة بالحوارات. تذكرت ملاحظة من صديق لمحاولاتي التافهة بالكتابة أن ما اكتبه لا يحتوي على أحداث وهي عبارة عن مونولوج داخلي وأنه يشعر بملل فظيع عند قرأته لمقطع قصير لي. ادركت مع ميلر مدى صعوبة قراءة هكذا صنف من الأدب ومدى سطحية ما أكتب.

الرسالة، التي ظهرت على الشاشة، من صديقة على الفيس. كانت تعيد إرسال هذه الجملة كل فترة. أردت أن أخبرها بذلك، لكن فضلت ألا أكون وقحاً معها. تكرر “أنا أنسى كثيراً“. في البداية، كنت أظنها تتحدث عن النسيان بنفس الطريقة التي يستخدمها الكثير منا، حيث نقولها كمجاز عندما نتحدث عن أشياء لا نزال قادرين على تذكرها. وأحياناً أخرى لنخفي مشاعر القلق والمشاكل في الدرج.. أو لنتجاهل الأوطان والأهل الذين أصبحت إمكانية لقائهم مجدداً شبه مستحيلة. اما صديقتي فقد فهمت فيما بعد، أن عقارب ذاكرتها قد وضعت على الصفر. تعيش في دوامة معتمة تعبر منها كل يوم إلى العالم الآخر ثم تعود دون أن تعثر على صوتها السابق. حدث هذا بعد أن فقدت ابنها تحت القصف. أحياناً كانت تخبرني عنه وفي مرات أخرى كانت تنسى أنه وُجِد. مرة نسيت زواجها وعندما قابلت زوجها على درج المنزل حاولت أن تستميله. وعندما ذكرها بأنهم متزوجون، كرهته. قلت ”أي أحد مكانك لشعر بنفس الشيء“ وضحكنا.

لا يوجد أي معرفة حقيقية بيننا. كل ما هنالك أنها في يوم ما اختارت أن تبعث برسالة لأحدهم تلعن فيها الحياة. وقع اختيارها علي. دخلت حينها إلى صفحتها لمعرفة شكلها. سمينة بعض الشيء، لها وجه دائري يوحي بأنها من هؤلاء الذين يتحدثون دون توقف، يحركون أيدهم باستمرار، ويظهرون نزعة درامية مزيفة لإخفاء ما هو أكثر مأساوية في دواخلهم. أخبرها زوجها أنها لن تكون راضية بأي شيء، ولا حتى قضاء الله وقدره. حاولت التخفيف عنها بقولي أعتقد أنك في النهاية ستكونين راضية، لكن هذا سيحدث شيئاً فشيئاً لأن أكثر السمات النفسية المميزة للذوات المعطوبة هي الإدراك البطيء للأحداث. هناك أشياء لا تناسب الرأس، ليس بسبب مشكلة في الحجم ولكن في القسوة. أردت أن أضيف انك في النهاية إما أن ترضي أو تصلين للإهمال التام لكل شيء أو الجنون. تركت هذه الفكرة لنفسي.

انتبهت بعد مدة من التواصل أنها تتحدث إلي كما لو كنت شخصاً مختلفاً في كل مرة. تذكرت جارتي المخطوبة من حي الطفولة. عندما أخبرها خطيبها بأنه شخص مختلف كل يوم، وأنه يتغير مع الطقس والبيئة، عندئذ قامت جارتي بتغيير خطيبها، حكيمة. اما نحن فكنا سعيدان بهذا التجدد الدائم. عندما علمت بأنها تحذف كل رسائلنا بعد انتهاء المحادثة، لجأت إلى طريقة بيسوا ورغبته بالتضاعف، أي أن أسرد حيوات عدة شخوص. كلانا كان يهرب من الواقع وننكره. هي بشكل قسري وأنا بإرادتي. أحياناً بإرادة الكحول، فالكحول، مثل فيزياء الكم، يضاعف عدد الأكوان الموجودة في داخلنا. هذا ما اقتنعت به لكن هناك دائماً احتمال آخر للحقيقة وهي أن كلانا يعرف أن الآخر يختلق القصص ولكننا وصلنا إلى تلك اللحظة التي يجعلنا فيها الإحباط أشخاصاً أنيقين، فلا نواجه بعضنا البعض بالحقيقة التي يعرفها كل واحد منا عن الآخر. لقد كانت تكرر ثيمات محددة في قصصها، الفقدان، كره الزوج والزواج ونهاية العالم. اما أنا فكنت أكثر رضوخاً لرغبتها في سماع القصص التي تتحدث عن العلاقات الفاشلة وبعد فترة أصبحت انتقل مباشرة إلى الجزء الأخير من القصة، أي لحظة الانفصال، التي كانت تضحك عليها بشكل هيستيري تلك الضحكة التي تخرج من اللاوعي من شدة الفرح. أخبرتها، في إحدى المرات التي كنت أتجهز فيها للخروج مع امرأة انكليزية. قالت لي أختي أن أحلق ذقني وأرتب هندامي بشكل أفضل، أجبت ”لا يوجد امرأة تختار الجمال، جميعهن يبحثن عن مجانين“ وضحكت..في المطعم كانت الانكليزية تتحدث بصخب ونبرة مأساوية عن علاقاتها السابقة. وختمت حديثها: كلهم عاملوني كعاهرة وضحكت. عند تلك اللحظة قلت لها أنني سأخرج دقيقة لأشتري السجائر، ولم أعد. لم أرغب في أن أضيف اسمي لواحد من هؤلاء الأوغاد الذين ذكرتهم، أو ربما لأنني أدركت أنني واحد منهم بالفعل. لأننا جميعاً أوغاد ونتناقل هذه الطبيعة ونتعلم أن نضيف عليها ونغير بالأسلوب من جيل إلى آخر، بنفس الطريقة التي يتعلم  فيها مصاصو الدماء من أفلام مصاصي الدماء السابقة، فن البقاء.

في اليوم الذي أرسلت فيه ”العازب ليس أنانياً“ تابعت أنها نسيت نفسها نائمة لأربعة أيام، وأنها عندما استيقظت قررت أن لا تنسى بعد اليوم وأن تتذكر كل شيء. بعد ذلك فهمت أنها لا تتذكر ما سبق إنما تصطنع أشياء جديدة للماضي وتتعامل معها على أنها الحقيقة. أصبحت تتحدث عن زوجها على أنه خطيبها الذي تخطط لتركه، دون أن تسبب له الألم، ستكتفي بالقول : أننا صنعنا ضد بعضنا البعض. أدرت رأسي عن الشاشة لأنظر من النافذة التي على جواري. لأعطي نفسي مجالاً للتفكير. كانت الأشجار عارية، أحب الأشجار بكل حالاتها كما يحبها كالفينو، بدت الأغصان التي كانت بدون أوراق مثل أذرع هيكل عظمي ممدودة إلى السماء تطلب منها التفسيرات، دون جدوى. عدت إلى الماسنجر لأقول لها يعجبني عودتك لإمساك زمام الأمور في حياتك، لكن العين الخضراء التي كانت تنظر إلي بتحدٍ منذ قليل، انطفأت قبل أن أجيب.

بعد عدة أيام، عادت لتحذرني من مجيء عاصفة ستحمل رياحها الموت. لانجو علي أن أبقى في البيت وإغلاق جميع النوافذ حتى نوافذ اللاب توب. لأنها تشعر، عندما تدخل الفيس البوك، برياح حقيقية تهب في وجهها. ثم أرسلت رسالة صوتية لتخبرني بشيء يبدو أنها كانت تخاف من رؤيته مكتوباً، قالت فيها أنها لن تعلم خطيبها بالأمر. على العكس، ستطلب منه المجيء لمنزلها ساعة العاصفة وتتركه في الخارج. اختفت صفحتها كما يتلاشى الدخان في الضباب.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة