راح يتنقّل بين النوافذ ليعرف ايها مناسب اكثر، او ربما تمّ الامر بحبل من السقف….احتمالات عدة كانت تدور في رأسه والامور كانت تسير بشكل متسارع الى الهلوسة، حيث انتهى به الأمر بعد عدة ساعات، من معرفة الخبر، الى رؤية المرأة في كل زوايا غرفته، عازمةً على الموت.
سَكَنت عقله هذه الفكرة بعد أن علم بموت امرأة في منزله قبل سنتين. اراد ان يعرف شكلها، فبحث بين البريد المُتكّوم عند الباب على رسالة تعود الى ذلك الوقت لمعرفة الاسم والبحث عنه في غوغل، اندهش بمعرفة ان المرأة قد قررت مغادرة العالم بإرادتها، دون انتظار الجسد أن يأخذ قراره مع الزمن.
مع مرور الوقت، اخذت الصورة تختلط عليه، واصبح يرى نفسه يأخذ القرار الذي سبقته اليه، المقيمة السابقة، وفكر ان كانت الاماكن تُوَّرث الطباع كما يوّرث الوالدان أولادهم. ليتخلص من الحالة قرر الذهاب بعيداً عن المنزل لعدة أيام. الخيارات، عائلته في الشمال او البحر في الجنوب. رمى قطعة نرد ليحدد الجهة، لم يكن شافيل بحاجة الى الصدفة لتحديد الجهة فخوارزمية جسده اخذت القرار مسبقاً، لكن كل مافي الأمر أنه اراد التسلية قليلاً مع الله والقدر.
كانت النوارس تصدر صوتاً رهيباً، كما لو أنها تكرر اسماء آلهتها من الأعلى. تشتكي من الغرباء الذين يأتون في رحلات الاستجمام، كما يفعل البعوض مع اولاد المدن وذلك في قرصهم عندما يصلون الى الريف، مع فارق ان النوارس، فكرياً، تنتمي الى اليسار الليبرالي.
لم يكن شافيل، رجل استجمام، هذه الكلمة هي مفهوم مخصص للدائرة الاعلى من المجموعة البشرية، اي ميسوري الحال، ولكن في الوقت نفسه هو قارئ والكتب تجعلك ترغب بما يفيض عن الحاجة بدلا من الاكتفاء بما هو ضروري للعيش. في جميع الاحوال فضّل ان يسميها رحلة ويبقى منسجما مع دائرته المادية.
كان راغباً في هذه الرحلة منذ مدة طويلة، لكن الحياة كان لها رأيها المخالف. غايته من المشوار هو زيارة منزل الفيلسوف كولن ويلسون، الذي يتميز في طرح أعقد النظريات بأبسط طريقة-اذا اردت ان تصبح مثقفاً في أيام عليك قراءة كتبه فهو يعتبر “ماكدونالدز ثقافي”-كما انّ لكتاب “اللامنتمي” أثر في شخصية شافيل، كذلك موت ويلسون، الذي حدث في اليوم الذي انتقل فيه شافيل من جحيم سوريا الى بريطانيا ليبدأ حياة جديدة، انتقل هو لأفضل الأماكن حسب توصيف شافيل، العدم.
نظر شافيل الى الأفق البحري متمنياً ان يكون هناك، وعندما دخل الى عمقه بالقارب توجه نظره الى الشط، فهو من هؤلاء الحالمين الذين يرون أنّ “الحياة في المكان الآخر”، اللحظة الوحيدة التي كان يقظاً فيها لوجوده كانت عندما انتقل من صلابة الارض الى ميوعة البحر، أي اللحظة المتغيرة، فهو كائن نيتشاوي ينبض عندما يهوي فقط.
الإقامة بالفنادق، تعطي شافيل شعوراً بالراحة لأنها أماكن مخصصة دوما للمغادرة. رأى نافذة غرفته بالفندق مفتوحة، اتجه نحوها ونظر الى الاسفل لمعرفة ما اذا كان شخص ما قد اتخذ بالفعل قراره. حدث العكس، فقد شاهد الحياة في قبلة طويل بين شاب وفتاة، بعد ان انتهوا من التقبيل، ركضت الفتاة ولحقها الشاب، ثم تغير الموقف الى لكمات انتهت بقبلة، كل هذا في زمن قصير كما لو أن الله ضغط زر تسريع المشهد. هذه التقلبات السريعة في مشهد الحب يرجّح البعض على انها قوة الحب لكنها أقرب الى أن تكون مثال على تعثّر العصر في تكوين نفسه. في السابق، كان الرجل يمشي في الامام والزوجة تلحقه على مسافة ثابتة، على الرغم من كل خطوات المرأة الخفيفة مقارنة بخطوات زوجها الا ان المسافة تبقى واحدة، وكأنه القدر، الذي لم يعد موجوداً اليوم.
توجه بعد ذلك الى موظفة الاستقبال ليسألها عن مكان منزل ويلسون، الموظفة اسمها فيونا وهي جميلة و ودودة جدا، كما هو المعتاد في وظائف الواجهة في كل الشركات. اتت فيونا بغوغل والخريطة، بعد خمس دقائق من البحث توصلت الى أن شافيل في المدينة الخاطئة، لكنها عرضت عليه ان تمر الى غرفته بعد انتهاء دوامها وأن يذهبا معا بسيارتها الى هناك.
سألها إن كانت ترغب في شرب شيء قبل الانطلاق، دخلت الغرفة ولم يخرجا منها إلا بعد يومين. في الليلة الثانية سألته ان كان يرغب في ان يصبح بوي فريندها، دهش شافيل واجاب بالصمت. صمت الرجال يُفهم على أنه رفض-فالرجال حسب التوصيف العام كائنات لا تستحي- على عكس النساء. بدأت فيونا بالبكاء ثم انتقلت -بطريقة غير مفهومة لآلية عمل دماغ شافيل- الى الحديث عن رغبتها بالإنجاب ثم غرست وجهها في الوسادة. توجه الى النافذة واسند يده عليها كما لو كان في انتظار ظهور الفجر. فَكّر ان صمته يمكن أن يفسر على انه تصرف ذكوري غير اكتراثي اتجاه الأنثى ولكن إن عاد إلى الفراش الآن يكون بذلك قد الغى ذاته التي ترغب في الصمت بهذه اللحظة وهو لا يرغب في التشجيع على افكار التضحية بالفردية لصالح الجماعة. اشعل سيجارة ونظر الى الموج الذي كان عالياً في تلك اللحظة، لم يكن الهواء قوياً، راود شافيل فكرة ان البحر يتحرك عوضاً عن شيء آخر ، عوضاً عن قوة الانفعال في داخله.
تدخلت ساكنة أخرى رأسه بأن تدخين الذكر بعد الجنس فعل خارج روح عصر النسوية وعليه أن يظهر اهتمام ما ولم يكن من الكذب بد. توجه إليها قائلاً بأنّ صمته هو لسبب خارجي لا علاقة لها به واخبرها ان فكرة الشراكة ملغاة بالنسبة له بسبب عدم قدرته على الانجاب. ردت عليه متفاجئة: ” لكن هو شغال تمام” اجاب شافيل: ” ليس كل مايقوم فهو بالضرورة منتج، لمدة خمس سنوات كنت اقوم كل يوم في الصباح الى الجامعة لدراسة الهندسة ولم انتج هندسياً اي شيء”.
يبدو أنّ الكذبة ستنجح فإجابة فيونا التي ربطت فيها جزء بالكل توضح انها شخصية تفكر بطريقة الكلي/الصفري يعني اما كل شيء او لاشيء..وبالتأكيد لن ترضا بشريك بدون انجاب وهذا ما حدث.
في الصباح أخبرها شافيل أن عليه قطع عطلته والعودة الى العمل. عند الوداع قالت له: “رغم جمال كل ما حدث لكن الأمور لابد أن تنتهي مثلها مثل كل الامور الأخرى في الحياة مصيرها التوقف”. ودَّ شافيل ان يكمل جملتها ويخبرها انهما في الاساس كشخصيتين صُنٍعا ضد بعضهم البعض. الرغبة في الاستقرار والرغبة في الانتقال متعاكستين، مثل الحياة والموت.
لكنه اكتفى بالصمت كما هي عادته واكتفى بنظرة بلهاء على طريقة الدجاج حيث نظر اليها بعين ثم ادار رأسه ليرى نفس المشهد بالعين الأخرى، حاول اضافة غمزة لكنه فشل. ثم انتقل الى فندق أخر.
دون جوان العصر الماضي كان يقع في حب لحظي ثم يهرب، كان يندمج بشكل كلي مع الآخر ثم يختفي. دون جوان عصرنا يرى هكذا نوع من التجارب على انها قاسية غير محتملة. والحالة الدون جوانية المعاصرة هو الشخص الأقل مسؤولية اتجاه العالم الذي استقال من وظيفته في الحب والعائلة، المجتمع، الدولة وحتى من الأمم المتحدة ليعيش وحيداً.