سترة من فولاذ

عندما كنت أتناول العشاء مع ف في شقتها، التي كانت في الطابق السادس من المبنى، وكانت أيضاً مليئة بالكتب والأكواب والملفات والكثير من الأشياء غير المفيدة، مرمية في أماكن مختلفة بشكل عشوائي. سألتها عن السبب؟ أجابتني أنها تكره أن يكون لمنزلها محتوىً سردياً، وأن هذا الكره توّلد لديها، بعدما فقدت الأمل بكل ماهو خطي وتقدمي وسببي.. وذلك بعد أن سمعت في إحدى المرات، عندما كانت صغيرة، والدتها تتحدث إلى طبيب تخبره فيه: أن شعر ذقنها ينبت ويزداد كثافة بشكل سريع. بعد ذلك أصبحت تنتظر أن تتحول أمها إلى رجل لأنها بذلك سيصبح بإمكانها مواجهة أبيها بل ربما تبدأ هي بضربه وحتى ركله خارج المنزل.. كان لابد لهذا أن يحدث! هذا مايقوله المنطق التسلسلي للأحداث، لكنه لم يحدث وبعد فترة طويلة من الانتظار فقدت الأمل وأصبح لديها قدرة مستمرة على الأمل في الليل والتدمير المستمر لقدرتها على الأمل في الصباح. إلى أن أدركت الواقع وهربت من المنزل.

سألتها: ماذا حدث بعد ذلك لوالدتك؟

أجابت: لا أدري ولكنني أحلم دائماً بالعودة لتحقيق ما عجزت عنه أمي ويصبح بإمكاني إيقاف هذه التقطعات الفوضوية لحياتي وإعادة إمكانية التسلسل السردي.

نظرت إلى الشمس المرسومة في اللوحة، المعلقة فوق رأسها، تضايقت عيناي وأغمضتهما قليلاً كما لو كنت أنظر إلى شمس حقيقية، لكن عندما نظرت إلى ف مجدداً لم أشعر بما يسمى بالعمى اللحظي، لذا فكرت أن الرأس يحتوي أكثر مما يمكن قوله بشكل منطقي.

أخبرتها أنه في الحي الذي كنت أعيش فيه، حيث تجد كثير من الأناس يشبهون الأشباح، والقطط تختبئ تحت السيارات، والحفر في الشوراع كبيرة لدرجة تشبه تلك التي على سطح القمر. في اليوم الذي كنت أستيقظ فيه وعندي رغبة شديدة في قول لا، كنت أتخيل أنني ألبس سترة ضد الرصاص حتى أتجاوز خوف النزول إلى الشارع مع هكذا رغبة. وكنت على يقين أنه لابد من أن الكثير من الناس يرتدون هذه السترة إلى أن تأكدت من ذلك، عندما جلست امرأة إلى جانبي، في الحديقة المقابلة لمنزلنا، وخلعت عن نفسها سترتها الفولاذية، لترضع طفلها ولكنها أخبرتني انها ترتديها لا لرغبة في أن تقول لا، كل ما هنالك أنها ترغب في حماية نفسها فقط، وأضافت أنها قرأت أنه في المستقبل البعيد سوف يتمكن البشر من تغيير شكل ومادة ما يستعملونه بمجرد التفكير في ذلك وعندها سيكون أمر حماية النفس أسهل من الآن، لأنه يصبح بإمكانك، مجرد احساسك بالخطر أن تفكر بتغير المادة التي تتكوّن منها ملابسك، فتصبح مضادة للرصاص، أجبتها أنه، حينها، سيكون قدرة الآخرين على قراءة ما يدور برؤوسنا أكبر وبذلك من الممكن أن نعاقب بشكل أكبر على ما يدرو في خلدنا من رفض لما يملى علينا، ولكي لا أحبط أملها بسوداويتي، أضفت أنه لنأمل أنّ الحياة في حينها ستكون أفضل والاختلافات تصبح أكثر قبولاً. أجابت: ربما، لكن لا أمل كبير لديها لأن التقدم التقني ليس بالضرورة أن يصطحب معه تقدم أخلاقي خاصة في حالة أن تكون امرأة في هذا الحي، الذي يملئ نفسه بالكراهية أكثر، يوماً بعد يوم، هذا أفضل فن لديه وأكثر مجال يتقدم فيه.

في ذاك الحي المتوتر وواقعه الفاسد، حاولت عبثاً تنشق هواء نقي بمجهودي الخاص، ولكني في هذه الحالة لم أتمكن من التحرر من نتانات محاباة ذاتية خطرة. كنت أفتح النوافذ من حين إلى آخر للتخلص من تلك النتانة، لكني بقيت مسموماً، متعذباً، متمتعاً بوحدتي، أجهد نفسي لحل هذه التناقضات الداخلية، بقيت في صراع داخلي بين الظهور والاختباء وتحقيق التوازن بينهما وتحقيق فعالية حياتية ولكنني لم أكسب، من هذا الصراع، سوى المزيد من الاحساس بالدوران، التورط والقيء المر للفشل. حتى بعد الفرار من ذاك الحي،  بسبب كل ما تم تثبيته فيه من شرور وأفكار، لاحقتني تلك الأفكار لأن الحي نفسه توسع من خلال الحرب، ووصل إلى المكان الذي لجأت إليه.

أخبرت ف أنني أحيانا أرغب في العودة إلى ذاك الحي، لكنني أعرف أن هذه الرغبة مصدرها قدرة المرء على حب ما يرميه في النار، دون أي شعور بوجود مشكلة في داخله. أجابت أنها بسبب قناعتها بأن كل ما هو دائم فهو خطأ، لهذا تفضل الانتقال الدائم بين الأمكنة، وأن تكون في علاقات عابرة فقط مع كل شيء، دون أي اندماج او انخراط حقيقي، حيث تتيح هذه الطريقة للمرء فرصة العيش غريباً..وأحياناً توّد الاستقرار والبقاء في هذا المنزل، لكن الأمر أصبح غير محتمل، ليس بسبب زعيق الجيران، ولا بسبب الأصوات الصادرة من صنبور الحمام الذي يتنفس كقطار يختنق بفحمه، وليس بسبب الفئران التي انتشرت مؤخراً في المبنى، إنما بسبب السلالم التي يجب نزولها لتصل إلى الأرض، فليس باستطاعتها أن تنزل إلى الأسفل أكثر مما وصلت إليه حتى الآن. وأضافت: ”أعتقد أن هذا في حد ذاته فلسفة.  ولهذا السبب أعلم أن لدي فلسفة ولكن لدي أيضًا فراغ“.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة