سيلفي 2.0

أخبرتني جارتي “ر” الإيرلندية أنها قضت ليالي، في دبلن، حيث كان من الممكن أن تصادف إحدى تلك السهرات التي ينام فيها جميع الحاضرين تقريباً مع الجميع. أما اليوم فكما ترى، قالتها وهي تشير بيدها إلى ما تبقى من أصدقائها في منزلنا المشترك، نشرب أكثر مما سبق. ننتهي إلى أن يأخذ الجميع تقريباً صور سليفي مع الجميع ويتجه كل واحد منّا إلى فراشه منفرداً. أجبت أنه على الصعيد النفسي لا فرق كبير، فالسيلفي يرفع من نسبة الدوبامين في الجسد بنسبة أعلى فعلياً من الجنس، خاصة إن حصل أحدهم على الكثير من المشاهدات واللايكات. كما أنها طريقة أكثر أماناً لشعور المرء بوجوده. في الجنس يشعر المرء بوجوده في لحظة الالتحام. أحياناً، بعد الانتهاء يشعر البعض بخواء أكبر مما كان قبل الجنس. بالإضافة إلى أن العلاقات تضفي احساساً بوجوب تحمل المسؤوليات تجاه الشريك من تواصل لدرجة تصل أحياناً إلى ذوبان أحدهما في الآخر والتأرجح بين الفرح والقهر والهواجس. وأيضاً إحتمالية حصول الحمل، هذه الإمكانية التي تحوي الكثير من الخلل المضحك والمرعب في تركيبة الجسد، لأن الحمل كما أظن يجب أن يكون بعد قرار مدروس وليست نتيجة لحظة متعة. أما تكويننا الحالي، على عكس ذلك، فهي تحدث كما لو أنك تذهب لتستمتع بلعبة بينغ بونغ، تنتهي منها بجملة مبروك! ربحت جنيناً. أما السيلفي هو لحظة تحقق الوجود في كل شاشات الأصدقاء مع إمكانية الإلغاء والحذف. أضافت ر “ببساطة تستطيع أن تقول أن السيلفي هو كما لو أنك تمارس الجنس أمام الجميع” وضحكنا.

خرج الجميع وجلست ر بيدها كأس الجين. تذكرت في بداية سكني معها. عندما كنت أعود من العمل، كنت أراها جالسة على نفس الكرسي، إلى جانبها كأس جين وفي يدها كتاب غالباً شعر. كانت رؤيتها في هذه الحالة تقويني لأتغلب على تعبي واقرأ. لكنها تخلت عن تلك العادة وأصبحت تقضي الليل على الهاتف تصرخ وتضحك إلى أن تبدأ بالشخير. سألتها عن السبب؟ أجابت: بعد أن شعرت بصداع شديد لعدة أيام. أدركتُ أن الصداع ليس شيئاً أدبياً، إلا إذا كان هذا الصداع سببه رصاصة في الرأس. بينما الصداع الحقيقي يمنعك من تشغيل الدماغ. طلب مني الطبيب القيام بصورة رنين مغناطيسي للدماغ. قبل موعدي قرأت أن تلك الأجهزة التي تقوم بعملية المسح، تطورت إلى درجة أصبحت البشرية معها قادرة على رؤية الأفكار وهي تتحرك ضمن الدماغ الحي. كما أن تلك الآلات، في السنين الأخيرة، قدمت معارف عن العقل البشري أكثر مما قدمته، خلال العصور الماضية، باقي العلوم التي تتعلق تقليديا بالدماغ من فلسفة وعلم النفس إلى التحليل النفسي.أضافت ر : عندما استلقيت في ذلك الجهاز الذي يشبه القبر وبدأ بالمسح شعرت برعب من أن يقرأ الطبيب مشاعر الخوف التي تسكنني، حيث كنت دائماً من الخارج الشخصية المستقوية، وفي الداخل كنت ضعيفة وخائفة مثل أي خاسر أبدي، وتلك لم تكن حياة! عندما انتهى الفحص دون أن تشير التقارير إلى تلك المشاعر، زال ذاك الخوف. عندها أيقنت أن تلك المشاعر لا وجود حقيقي لها، أصبحت أكثر ثباتاً وقوةً من الداخل، وصرت أتابع العلم بدلاً من الشعر الذي كنت اقرأه رغم أنني لم أكن أفهمه، فهو عالم مشفر وفيه الكثير من التأويل دون إمكانية فك الرموز والحصول على إجابة نهائية، كما هو الحال في الرياضيات  ”لا أدري! هناك الكثير من المشاكل التي أشعر بها مع الشعر والكثير من الحلول في العلوم الرياضية“. أجبتها أن جهاز الرنين عاجز عن رؤية أمالنا ورغباتنا الحميمية وخوفنا، كما عجزت علوم الكون، إلى الآن، عن تفسير الأجسام الغريبة فيها مثل الثقوب السوداء والنجوم المنفجرة والمجرات المتصادمة. هناك مناطق مازالت معتمة في كل مجالات المعرفة. كما أن الأمر لا يتعلق بتوفر الإجابات النهائية أكثر مما يتعلق بطبيعة الفرد، فأولئك الذين يكتفون بما هو سطحي، لا حاجة لهم أساساً إلى وجود أي تفسير. لأن من يبحث عن تبسيط لكل شيء ينتهي إلى قبول أي معلومة، أما من يرغب دائما بالمزيد من المعرفة، فلن يفي أي تفسير بالغرض. أومأت برأسها كما لو كانت تقول لا يهم، ما لم نصل إلى شرحه بعد، لا ضرورة للتفكير به. أضفت أنني أتنقل بين ضفتي المعرفة وادمجهما حسب الأيام، حيث أكون اكثر ميلاً للشعر والفوضى والثورات فقط أيام السبت والأحد. ثم أعود إلى الانضباط العملي من يوم الاثنين إلى نهاية الأسبوع، وأسخر أثناء العمل من الأدباء الذين يحلمون في ضبط العالم عن طريق استحواذ عالم الأدب على السلطة كأصحاب نظام مناسب، لإنهاء الصراعات والتناقضات في الكون دون إحداث أي ضجيج خارج كتبهم.

تذكّرت أحد أصدقائي، كان مهندساً عملياً، كل شيء بالنسبة له خاضع لمبدأ النتيجة الأفضل. عندما واجه حقيقة أن حبيبته تخونه في فترة امتحاناته، أخبرني انه سوف يتجاهل هذه الحقيقة لما بعد الامتحانات لأن الأهم الآن هو أن ينجح، واستمر في الحديث مع حبيبته. نجح بالامتحانات وهو مرتبط بها حالياً.

لست متأكداً إن كان هذا الحوار قد حدث بالفعل أم أنني تخيلته. أحياناً عوضاً عن الحديث مع نفسي، أتحدث إلى امرأة تسكن رأسي منذ سنين المراهقة. في المونولوج الداخلي أتحدث إلى امرأة تمثل جانبي  الأنثوي نفسياً، أو ربما قد اخترت امرأة لأن البشر جميعاً يشعرون براحة أكبر في الحديث مع النساء، كما أنهن أكثر رحمة وود في استقبال البوح.

ما أنا أكيد منه أنه عند انتهاء السهرة، أخبرتني ر أنها تريد أن تنهي الليلة على الطريقة الايرلندية، في السرير. لم أشعر بأي رغبة تجاهها، بالإضافة إلى أنني اكره إقامة العلاقات مع زملاء السكن لما تسببها تلك العلاقات من تعقيدات في عملية الهروب والاختفاء. لكي لا أشعرها بالحرج أخبرتها أنني مثلي الجنس، لكن لا مانع لدي من أخذ سيلفي في السرير ومشاركته مع أصدقائها على الانستغرام.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة