تجوّلت في عمّان لفترة من الوقت. في عمان لا يمكنك أن تمشي لساعات دون أن تمر في تعاقبات من صعود وهبوط، فهي هكذا: تدفعك في مرح إلى الأمام، ثم تنساك وحيداً في شقائك، بسرعة قاسية. أخبرتني فتاة، وكأنها قرأت أفكاري، أن سبب هذا الصعود والهبوط هو أن هذه المدينة المذهلة، والتي تحبّها جداً، أنها قائمة على سبعة تلال متداخلة، لكل واحدة منها شخصية خاصة بها، مختلفة عن الأخرى، ومن يحبّ المشي، سوف يصعد ويهبط مراراً، ويعيش سبع حالات نفسية قصوى. وبعد وقت، قد يصبح له هو نفسه سبع شخصيات متداخلة، كما تتداخل تلال عمّان، فيصبح هو الآخر مكوناً من سبع شخصيات، ويعيش حالاً من الفصام الوجودي. ما لم تكن هي تعلمه، هو أنني في المشي الكثير هنا، كنت أبحث عما افتقدته في حلب، المكان الأليف الذي أرغب يوماً ما في أن أنهي حياتي فيه، وبما أن هذا لم يكن الحال بعد، دعوتها إلى الجلوس في حانة على سطح إحدى التلال، مقابل تلة أخرى. وبينما كنت أشرب الواين وتسايرني هي برشفات قليلة، أخبرتها عن خوفي من الصدف والأحلام، وعن أنني أخطط لكل خطوة بشكلٍ مسبق. وأن هذه السهرة استثناء، خارجة عن المألوف. أخبرتني بأن حالتي ربما تعود إلى انتقالي من حلب، المدينة التي كانت على حافة الهاوية، حيث كل خطوة غير محسوبة تعني الموت، إلى لندن، المدينة المنتهية من كل شي، ولا مكان لأي مغامرة، لم يتبقَّ فيها إلا العمل. أخبرتها أنه حين وصلت إلى لندن ونزلت بواحدة من البيوت التي يعيشون فيها بشكل مشترك، قال لي صاحب البيت إنه لا يجوز لي إحداث أي ضجيج، لأن النزلاء الآخرين ينامون باكراً ويستيقظون إلى أعمالهم في الصباح المبكر، وعلى هذا لا يُسمح لأي منا إزعاج ليل الآخرين ولا دعوة أي ضيف. كرر الأمر بشكل حاسم ونهائي. أجبته طائعاً بأنه لن يحدث، وكررت عليه بأنني سأتقيّد تماماً بأوامره. وبالفعل، التزمت، وأصبحت كالبقية: كل ليلة بعد العمل، أجد نفسي وحيداً، كما في الليلة السابقة والليلة التي قبلها، والليلة التي ستليها. بلا صدفة وبلا مغامرة. أستيقظ كل صباح على ظهر أكثر صلابة من اليوم الذي قبله. وحينما صمتُّ لطلب كأسٍ أخرى من الواين، ذكّرتني الفتاة بما حدث لمسخ كافكا، الذي حين استيقظ على شكل حشرة، لم يفكّر بنفسه، ولم يفكر بوجوده، بل فكّر بمديره والعمل. وأضافت الفتاة أن حلب ولندن جعلتاني أعيش لشيء خارج نفسي، ولم تتركا لي مساحة لاكتشافات وجودية شخصية، اكتشافات لا يمكن أن تحدث إلا في الصدف والأحلام. ولهذا لم أعرف نفسي بعد، لأنني كنت خائفاً في مكان، و مستسلماً في آخر. وهذه ليست حال عمان، على الأقل بالنسبة لها. نظرت إليها طويلاً، ومن ثم أطبقت بيدي على يدها بقوة ورغبة شديدة في لمسها والبقاء على هذا النحو أبداً. أشارت لي بالوقوف، وقالت: لنرحل؟. نظرت متردّداً من السطح إلى البيوت والشوارع الموزّعة على التلة المقابلة، فرأيت رجلاً بحجمي تقريباً، يصعد التلة وحيداً، منحنياً إلى الأسفل، بظهر صلب. قلت لنفسي بصوت خافت: ربما هي الصدفة، ربما هو القدر، وربما… رومانسية، من يهتم؟