عالم يخلو من الفراغ

“ إن الأشخاص لم يخدعوني قط، أما الرسائل فدائماً“ كافكا

منذ السنة التي تحول فيها ك إلى العمل من المنزل- لخمسة أيام ويوم في المكتب، وإحساسه بالمكان، الغرفة، التي يجلس ويعمل فيها يضيق، وكأنها تأخذ بالتقلص. لذلك، بدأ في نقل الاغراض منها وكل يوم نجح فيه بالاستغناء عن شيء من الموجودات  ونقله إلى المستودع، شعر بأن إتمام اليوم أمر أكثر قبولاً، رغم أن الشعور نفسه لا يختفي ويظهر مجدداً بنفس القوة في الصباح التالي، لكن لا بأس، طالما أنه ليس هناك من حل آخر. نقل الكراسي، فلا حاجة له بها، لا أحد يزوره، الزيارات أصبحت تقتصر على ظهور أحدهم من شاشة اللاب توب. نقل كتبه واستبدلها بكتب الكترونية، نقل اللوحات والتلفزيون..ما تمّ نقله من الغرفة تحول إلى ايقونات وملفات على شاشته، إلى رموز حاسوبية.. كل غرض يُفرغ من الغرفة، يقابله زيادة في البايتات وسرعة في اللاب توب، أليس هذا مدهشاً؟ عندما لم يبقى شيء سوى طاولة العمل ومقعده، أدرك أن الشعور ينبعث من مكان آخر، من شيئ لايمكنه الاستغناء عنه، من اللاب توب، الذي كثف وجود كل شيء أكثر من أي شكل كان سابقاً.. حيث زاد من عدد مهمات العمل وعدد الأصدقاء والكتب واللوحات والموسيقى. أصبح وجود كل شيء أكثر كثافة ونشاطاً. أصبح كل شيء يتقافز بشكل مفرط على شاشة صغيرة. ملئت جميع المساحات، لا فراغ.

لكن ربما كان هذا الشعور بالضيق يرافقه منذ الأبد، ليس فقط بسبب تلك النزعة الطفولية في إخفاء الأشياء وخلق المساحات.  ولكن أيضاً لشعوره الدائم بالامتلاء. كان يذهب إلى الحمام بشكل متكرر، أحياناً كان يتقيأ وكثيراً ما كان يدخل إلى إحدى الغرف ويطفئ الأنوار محاولاً تلمس الفراغ في ذلك العتم. ربما كان يعاني مشكلة في وجوده. ربما كان مزاجه غير سوي. ربما كان ممتلئً ببصيرة أنه لا يمكن في الحي، الذي ولد فيه، الاستمتاع بما هو موجود في الحياة من دراما، حب، ولعب. هذا الإدراك بأن كل شيء موجود ولا شيء ممكن، جعله كائناً ثقيلاً ومستحيلاً، شبحاً مثبتاً في البلاط.

والآن، وجد ك طريقة مكنته من التحكم بذلك الضيق الذي يخلقه الامتلاء. خصص ثلاث دقائق كل يوم صباحاً، يحاول فيها الاسترخاء قبل البدء بالعمل. يفتح النافذة، يستمع إلى همس الشجر وسعال الحمامات التي تقف عند النافذة، وتنظر إليه بطريقةٍ بدت له وكأنها تتآمر عليه، ويشاهد القطط التي تمر كل يوم في نفس الوقت وتنظر إليه بعيون لا توحي بالثقة. ثم يجلس بالقرب من النافذة إلى طاولته، التي تبدو وكأنها طاولتان، يشغلهما شخصان، يتنافسان بشراسة، يتسابقان بشكل هيستيري في العمل لدرجة يتحول فيه الجسد إلى وعاء دموي قد ينكسر من ارتفاع حرارة الدم، فيقول أحدهما شيئاً، ليدرك حينها أن الآخر غير موجود. لكن لا أحد يعرف أبداً إن كان وجود هذا الآخر  قد اختلقه ك أم نتيجة طبيعية لانعكاس البلور..

أثناء الدوام، الشاشة تُقسم إلى عدة مربعات القسم الأكبر لما يقوم به ك من عمل وفي زاويتي الشاشة من الأعلى، قناة إخبارية ليقرأ ما يحدث في العالم من عاجل وفي الخلفية صوت بودكاست، ضرورات الحياة. تصل رسالة من أحد الزملاء إلى مجموعة العمل يقول :“صباح الخير جميعاً“ لا أحد يرد عليه. الكل كان يتصرف تجاه الآخر كما لو أنه مصاباً بجنون الارتياب الكافكاوي. ذلك الكاتب الذي، بالإضافة إلى الأدب، كتب عن حياته اليومية ولكن كما لو أن كل شيء، كل يوم، كان يتآمر ليحدث ضد شخصه. رسالة أخرى- ارتياب- هذه المرة من المدير: ”أجل، يمكننا أن ننهي هذا القسم من العمل خلال ساعة“  لم يرد أحد أيضاً، اثنان وضعوا لايك على المسج. الباقي تصرف وكأنه لا يوجد أحد وكأن كل واحد منهم خلق في كون منفصل. قال ك لنفسه ”يمكننا طيزي، انا فقط من يمكنه القيام بذلك“ وسرّع من هز أقدامه كما لو أنه يركض لينجز أكثر مما هو مطلوب منه وبأسرع ما يمكن، ربما تكون حركة الأقدام نتيجة لبرمجة طويلة الأمد لدماغ الإنسان خلال تاريخه الطويل، حيث كان الإنجاز مرتبطاً بالحركة والسرعة.  على البودكاست سمع ك، الذي يفقد انتباهه من حين لآخر، متصلة تسأل طبيب نفسي أن يساعده في أزمتها العاطفية التي تجعلها تشعر وكأن نهايتها اقتربت.. سألها الطبيب: ”كم شخص بالسنة تحبين، وتشعرين انك لا تستطيعين العيش بدونه؟“

أجابت: ”حسب عدد طلبات الصداقة في كل سنة“ ولكن أصرت أن الأمر هذه المرة مختلف، طلب منها ان تنساه وكفى. لكن لا أحد ينسى تحت الطلب أو لمجرد أن طُلب منه ذلك؟ كبسة الزر هذه لم تبرمج تقنياً بعد.

رسالة على مجموعة العمل، يبدو أن أحد الزملاء قد انهار، بدأ يشتكي. تصرف المدير بسرعة وأخرجه من المجموعة وتحدث عن ضرورة وجود طاقة ايجابية ولا مكان للسلبية، هذا وقت النجاحات والإنجاز..والنجاح يأتي من إعلان نجاح سابق ”نعم يمكننا تحقيق النجاح“ أجاب الجميع: ”أجل يمكننا“ ثم عاد الجميع لفشله وعمله.

شخص آخر يتصل بالطبيب، ليخبره أنه في كل مرة يخرج فيها مع حبيبته، لا يجد ما يقوله، وليتخلص من احراجه ذاك، ينظر إلى مكانٍ آخر، إلى المرأة التي تجلس إلى الطاولة المقابلة له، وكثيراً ما ينتهي به الأمر أن يقع في غرامها. وفي إحدى المرات ترك من يحب وخرج مع المرأة الأخرى، لكنه أيضاً لم يجد ما يتحدث عنه ونظر إلى امرأة ثالثة. ”خراء“ أوقفت المذيعة المتحدث.

اتصلت امرأة لتخبر الطبيب بأنها توقع حبيبها عن قصد بالأخطاء، عندما سألها الطبيب إن كانت تقوم بذلك لتبدو هي أمام الآخرين على صواب؟ أجابت بالنفي وأنها ليست من مهتمي الوجود في الجانب الصحيح، ولكنها تتسلى كثيراً في أن تبين للآخرين مدى الأخطاء التي يرتكبونها.

ختم الطبيب الحلقة بنصائح عامة عن ضرورة تمتع المرء بالمرونة والقدرة غير المحدودة على التحول وبنفس الوقت أن يسعى المرء ليصبح نفسه. نظر ك إلى الآخر، الآخر الذي بدأ ظهوره يخفت تدريجياً مع غياب الشمس وأخبره أنه سأم من أن يكون نفسه، إنه يرغب في أن يكون أي شيء آخر، طير مثلاً.  أغلق اللاب توب وشعر بالذنب من تقصيره في العمل، رغم أن ما أنجزه يفوق ما طلب منه لأكثر من يوم. قرأ على الورقة- التي الصقها منذ مدة طويلة على سطح كمبيوتره-،ملاحظة تذكره ان لا ينسى نفسه في العمل، كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساءاً.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة