عما إذا كانت اللغة هي المحدد الأخير في هوية النص؟

 

ثمة رأي يجادل بحزم حول هوية الأدب، ويحدده حصراً باللغة المكتوبة فيها، وثمة آخر يتناول نقطتي إثنية الكاتب والبيئة التي يعالجها كعناصر إضافية لتحديد هوية النص. مما لا شك فيه أن الأغلبية تتفق حول اللغة كمحدد أساسي لهوية الأدب وبالتالي فإن المكتوب بالعربية هو أدب عربي وما هو مكتوب بالكردية هو أدب كردي بشكل حتمي بغض النظر عن المحتوى ومهما ابتعد المتن عن البيئة الثقافية للهويتين المذكورتين. بعد هذا التحديد الأولي، يمكننا الآن التحول إلى فتح احتمالات أوسع حول الهوية الأحادية أو المزدوجة أو حتى المتعددة؟ اللغة؟ من يملك اللغة؟ ومن تملَّكت منه لغة الآخر؟ومن تملَّك هو لغة الآخر؟ وما سيختاره الأديب لو توّفر له اللغتان؟ لا بد من الإشارة إلى أن المقالة أدبية بشكل أساسي، ولن تتعرض للظروف السياسية المعروفة للجميع. وثمة أمر آخر أن المقالة تحمل في طياتها اعترافاً ضمنياً بقصورها؛ لأن أي رأي دقيق وشامل، سيتوجب عليه تتبع كل الأدب “الكردي” المكتوب باللغات جميعها ودراسة تحولاتها للخروج برؤى أكثر دقة. كما أن قلة المقالات المكتوبة حول الموضوع جعلت الحديث عنه مغامرة، ولكن ما يجعل المحاولة مستحقة هي هذه المخاطرة على وجه التحديد، فالغرض هو توسيع النقاش وتلمس الدلائل والبراهين لتكوين رأي أوضح في المستقبل.

مَن امتلك اللغة:

يحثّ جان دوست عبر شخصية أحمد خاني في روايته ”مير نامه“ على اختيار اللغة الكردية، واصفاً بأن لا بد للمرء أن يكتب باللغة التي هدهدت له بها أمه. وقد فعل هو ذلك وكذلك فعل حليم يوسف على سبيل المثال لا الحصر: كتبا باللغة التي يشعران بها، فهما يملكانها، وامتلاك المرء للغته تساعده على إخراج ما لديه بطريقة أكثر حيوية وأكثر قوة. حين سئل يون فوسه صاحب نوبل عن سبب كتابته بلغة أقلية صغيرة العدد في النرويج؟ أجاب بأنها اللغة التي يشعر بها وأنها فتية جداً وتتيح له مجالاً واسعاً للإبداع. كذلك هي الكردية لغة فتية اقتصر وجودها بين الكرد إلى عهد طويل على المحكي اليومي، والشفاهي بسيط واختزالي ونفعي إلى حد بعيد، ولا يساهم بشكل كبير على أي كشف انطولوجي للأفراد الذين يتحدثون بها. فوظيفة اللغة لا تتحدد بالتواصل فقط إنما وظيفتها المحورية – كما افترضها هايدغر – تتمثل في إتاحتها للإنسان الكشف عن جوهره عن طريق الكلمة. وبالتالي عندما يقدم أي كاتب أدباً بلغةٍ ما، فإنه يسمي فيها الأشياء، ويفسر الحالات البشرية – الفردية منها والجماعية – وبهذا يكشف عن جوهره، ويتيح لمجموع الناس أدواتٍ للكشف ذاته، يقول بلانشو: ”حيثما يوجد الكاتب لا يتحدث سوى الوجود وحده“، فاللغة الأدبية – على وجه الحصر- هي التي تمنح الأفراد فرصة إدراك العالم، وتفعل فعلها في تكوين الإنسان على الصعيد الفيزيولوجي (الذاكرة) والسيكولوجي(اللاوعي) والسوسيولوجي (الوعي). والمقصود باللغة الأدبية هي اللغة التي تعلق مؤقتاً الدّال -الإشارة المباشرة إلى الأشياء- وتتيح فرصةً لانفتاح المدلولات، ليتمثل المعنى بإملاء الفراغات والإخفاقات التي تخلفها اللغة اليومية. وبالتأكيد، لست أقلل من المحكي؛ لأنه يمكننا من الحافظ على التماسنا للواقع، ولكن نورها الشديد يمنع الرؤية. وعلى هذا النحو يسهم كلّ من يكتب الأدب بالكردية بتشكيل الذات ”الكردية”.

من تملَّكَته لغة الآخر:

ثمة من الأدباء من لم يمتلك لغته الأم إلا محكياً، أما كتابةً فقد تملَّكَته لغة الآخر. فاللغة هنا هي التي اختارت، وبهذا كوّنت علاقة سياسية بالدرجة الأولى قبل أن تكون شعرية، وقد لا يصل الُمُتمَلَّك إلى الوجداني أبداً. في هذه الحالة فإن الأدب هنا يتحدث العربية، بما أن الأديب يعبر عن مواضيعه بها، لكن هذه العربية نفسها في نهاية المطاف تتكلم عكس ما تتطلبها، لأنها تظهر بشكل رئيسي عوالم الكرد وذواتهم. سئل صمويل بيكيت من قِبل أحد الصحفيين الفرنسيين حول هويته عندما يكتب بالفرنسية، هل يشعر بأنه إنكليزي؟ أجاب: على العكس، أصبح إيرلندياً. يمكن فهم تورية بيكيت بطريقتين، الأولى بأنه عندما تحرر من الإنكليزية استطاع أن يعود إلى أصوله الإيرلندية، ويمكن فهمها أيضاً بأنه عندما كتب بلغة الآخر أصبح أكثر وعياً بذاته. هل يبتعد المرء أم يقترب من ذاته في لغة الآخر؟ ولا بد من ايضاح نقطة أن بيكيت قد اختار الفرنسية ”حراً“ إن كان ثمة ما يسمى بالحرية في اختيار اللغة التي يكتب بها المرء، بينما علاقة الكرد في هذه الحالة هي علاقة اضطهاد لغوي، فهم في العربية مثل “الضيف-الرهينة”، حسب توصيف دريدا، وهكذا يسكن في اللغة قلقاً حول الأنا ووجودها، ويظهر هذا التوتر الوجودي جلياً في بعض النصوص لدرجة أنها قد تقلل من الفني في النص لصالح السياسي. وثمة شيء آخر، الكتابة تسبقها عملية تفكير، فعندما نقول أنا أكتب نعني بها أيضاً: أنا أفكر، أنا أتذكر، أنا أتخيل، فالكتابة هنا ليست نحوية ولغوية فقط، وإنما هي تفكير. بأية لغة يفكر الكاتب الذي تملكًّته لغة الآخر كتابةً؟ وإن كان يفكر بلغته الأم ويكتب بلغة الآخر؛ فهل تصبح لغة التفكير هوية لنصه؟ أو يصبح نصه مزدوج الهوية؟ أو حتى مضطرب الهوية؛ وبهذا يقدم نصاً بلغة أجنبية لا تنتمي إلى هذا ولا ذاك. هوية ملتبسة، نتجت عن العلاقة الملتبسة بين الذات والأشياء واللغة، هل تصبح هوية الكاتب نفسها ملتبسة؟ لأن الإنسان والأشياء يرتبطان ضمن اللغة ومن خلالها، يشير كيليطو بأن ثنائيّ اللغة، أصحاب ”اللسان المفلوق“ يدركون انفصال الأشياء عن مسمياتها. أتساءل عما يفعله هذا الإدراك المبكر للانفصال؟ هل يساعد على إدراك العالم بشكل أفضل؟ أم أن الاستفاقة على اضطهاد لغوي تحرم المرء من النمو الطبيعي بحيث يدخل في النسق الاجتماعي بهشاشة الوليد الجديد؟ يقول الدكتور خالد حسين: ” يتعلم المرء الانكسار بلغةٍ غريبة أسرع من لغته“.

مَن تملَّك لغة الآخر:

ثمة من تملَّك لغة الآخر، تمرس بها ويعيش فيها بشاعرية كما لو أنها لغته الأم، أي يعرف الكردية وأحب العربية وسكن فيها. وثمة من لم يسكن الكردية قط، والعربية في هذه الحالة هي لغته الوحيدة، وبهذا قد يعيش فيها دون شعورٍ بالاغتراب، وقد يعيش بعضهم الاغتراب حتى في حالة اللغة الوحيدة لأن السكن في لغة الآخر يتطلب منها حسن الضيافة والانفتاح، وبالتالي فإن الشعور بالاغتراب هنا وعدمه يتوقف على طرفي العلاقة، وقد لا يسعف المرء أي شيء ويعيش في علاقة متأرجحة بين الاغتراب واللا-اغتراب. بأي حال من الأحوال، هذه أو تلك، فإن الكاتب الكردي أو الأدب ”الكردي“ ككل والمكتوب بالعربية بشكل خاص، يدخل في علاقة إشكالية مع الخارج على نحو مختلف عن الكاتب العربي ونصه، وعلى وجه التحديد الأدب الذي يحتوي فكراً مغايراً، مخالفاً، وناقداً للبيئة المحيطة اجتماعياً وسياسياً، فالكاتب العربي لديه: الذات <=> العائلة، المجتمع، السلطة. بينما تتضاعف بعض الطبقات السلطوية في حالة الكاتب الكردي بحيث يصبح المخطط:

الذات  <=> العائلة  <=> المجتمع (الكردي) <=> المجتمع الآخر (العربي) <=> الدولة كحاكم على الجميع <=> الدولة كدولة الآخر (التي تخالف أو ترفض أو تنفي وجوده وفي أفضل الأحوال تعترف فيه كأقلية مختلفة عنها).

وهذه الطبقات تنعكس في النص المكتوب وأحياناً تخلق توتراً ظاهراً في تكوين النص (الشخصيات والموضوع) لدى مجموعة الكتّاب بطريقة مشابهة. نستطيع أن نتلمس بسهولة تلك المبالغات التي يدخلها الواقع الكردي على النص من فانتازيا معقدة واحتواءها لعدة طبقات من الغرائبية أو العاطفية المفرطة أو الوقوع في التأريخ. ولا بد من ايضاح أمرٍ وهو أن ليس كل نص لكاتب كردي قد يحمل في داخله هذا التوتر، فقد يحمل بعض الكرد المناعة الكافية لحماية نصه من الوضع الخارجي وكذلك التحكم والنظرة المتماسكة وأيضاً ثمة أدباء يحملون في داخلهم سمة المتجولين العظماء الذين يتكيفون ويقيمون في حضارة ولغة الآخر. لكن يبقى السؤال مفتوحاً حول النصوص التي تحتوي هذا الهم السياسي الواحد والتوتر الوجودي والمواضيع المشتركة للنصوص سواء التي كتبت بالكردية أو العربية هل يمكن تصنيفها ضمن هذه الالتقاء تحت مسمى ما يفترض أنه ”أدب كردي“؟

الشخصيات والموضوع:

من الصعب تحديد طابع الشخصية الأدبية في الروايات التي موضوعها الأساسي قضية شعب، لأن أغلب الأدباء في هذه الحالة يحرمون أبطالهم من الضمان المتأصل لمسار حياتهم الفردية، فتراهم يوقفون مؤقتاً أو نهائياً على شكل مفاجئ حياة الشخصية الرئيسة، يمنعون عنها المضي بتفاصيل حياتها وموتها لكي يتبلوّر للقارئ المعنى المرجو من خلقها، فنلاحظ عرضية الشخصية، وتقهقرها لصالح التجربة الجماعية، وهكذا ننتهي من بعض الأعمال غير متأكدين مما إذا كانت قد وصلتنا أي رسالة من البطل، لأن الكاتب وقع بحماسة تحت ضغط واقع الجماعة المقذوفة في الطوارئ، فنجد في النص أشياء ليس لوجودها أي ضرورة أدبية إلا لكونها تحيل إلى الواقع الإنساني والتأريخي الجمعي. وثمة أمر إضافي وهو الكتابة من أجل الآخر، هذه الكتابة التي تغرق في كل ما هو بديهي للأنا (الكرد) وتشرح بالتفصيل كل ما حصل واقعاً وينتهي الأمر بالنص ليكون مملاً للقارئ المحلي وتأريخي للغير. وسوف أتحيّّن الفرصة هنا وأقول إن الكتابة المؤثرة والفاعلة هي الكتابة الموجهة للذات، هذه الكتابة تحديداً هي التي تقدم الكثير للذات وللآخر والأدب. وأما فيما يتعلق بسمات الشخصيات في الرواية، فماذا لو قدمت رواية مكتوبة بالعربية حميميات الشخصية الكردية وعالجت تفاصيلها بشكل أكثر تفصيلاً من رواية مكتوبة بالكردية؟ هل تصبح تلك الرواية أكثر كردية بسبب هذا الكشف النفسي؟

التأثر والتأثير:

لكل نص حياة ممتدة من “ما قبل ” ظهوره و ”فيما بعد“، فكل قراءات الكاتب لها مكانتها في داخله، تعيش في ذهنه، تؤثر بعضها في بعض، لتخلق عالمه الإبداعي الذاتي، فكلّ نص يولد من هذا المزيج المتعدد الذي قد يحوي ثقافات عدة، تفرض حضورها ولا تلغي خصوصيته، ثم تأتي مرحلة ” ما بعد“ فيتحرك النص ويؤثر بمجموع متلقيه تفاعلاً وتأملاً وحباً. لست أتخلى عن مكانة الأدب المتعالية، لكن لا بد من الإقرار بأن أي نص لا يبقى ما لم يمتد حضوره في الحياة العامة. وإذا كنا نتحدث عن هوية النص وكل حديث عن الهوية هو حديث سياسي، والسياسي يكمن في أصله بالحياة العامة؟ أفلا تصبح على نحو ما هوية المتلقي نفسها حاضرة في هوية النص من خلال التفاعل مع النص معالجة ونقداً وتبنياً؟ فلكل نص درجة من الحياة، تزيد وتنقص حسب درجات وجودها وتغلغلها في العالم الحي، قد يعيش النص داخل نفسه، ويحمل هوية ذاتية مغلقة، وقد يمتد لتصبح هويته مكتسبة من طرفي العلاقة ”الداخل-النص“و“الخارج-القارئ“ أي الفئة المحتضنة التي تحافظ عليه من الفقد، وتسمح له بنفاذه إلى روحها. هناك نصوص فقدت هويتها التي نشأت عليها وأصبحت تحمل هوية كونية بسبب هذا الوصول الواسع لها إلى شعوب عديدة. النص ليس مادة ميتة وجامدة، بل هو نشاط وقدرة على التأثير، فاعليتها تتواجد في إدراكات الآخرين. كل نص ليس إلا الروح التي تسعى إلى تحقيق فاعليتها في انفعالات المتلقي، وهذا المتلقي يلعب دوراً في تحديد هويتها. إن تفاعل الكرد مع نص مكتوب بالعربية أو غيرها ودخل هذا النص في ثقافتهم اليومية وروحانياتهم ورموزهم، أفلا يكون هذا الأدب “كردياً”؟ وهذا لا يلغي أبداً هويته التي اكتسبها من لغته، كينونته اللغوية، بل يفتح كل نص على هويات متعددة.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة