فائقة الغبار

كانت قادمة من جنازة، جنازة كلبها الذي توفي عن عمرٍ طويل، جنازة لطيفة. ربما لن أحظى بمثلها، لكن ما المهم في أن أحظى بشيء أم لا بعد موتي؟ لم يكن لي من الحظ سوى القليل في الحياة. حظ الكلاب. لربما قد حظيت دون أن أدري أو أدري لكن أنكر، هكذا هو الانسان. لابد من الإشارة أن هناك أناس يعيشون في حالة مأساة حقيقية بما لا مجال فيه للشك. لا أدري، إن كنت واحداً منهم. لكن سأفترض كما قد يفعل أي شخص آخر بأنني موضوعي تماماً عندما أتحدث عن نفسي. غير مهم. لا شيء مهم في كوني موضوعياً طالما عشت طيلة الوقت بقيمة أقل من كلب وأرفع من ذبابة. لكن المهم في أن أحظى بشيء ما، أن ارتفع قليلاً، حتى يكون رقادي في تلك الحفرة التي سعت قدماي إليها أبداً، مستحقاً. أقول قدمي لأنني لم اسعى في حياتي لشيء. لم أملك من الادراك ما يكفي لأسعى. ولم تكن لدي عزيمة فطرية. كان علي التخلي عن قدمي في وقت ما سابق والانتظار. الاستمرار بتلك الحالة التي خطوت بها كان فعلاً غبياً حقاً، كما أنا تماماً. أخبرتني أن اسمها دافو، وأن لديها شاغر، مكان الكلب، تودُّ أن يحل أحدهم فيه. سألتها هكذا دون أوراق أقدمها واختبارات، لتأكيد أحقيتي في هذه المكانة التي شغلها طويلاً، ذاك الكلب القدير. الأمر مستعجل. الفقد لابد من تعويضه بآخر، لأنسى. فهمت؟ ليس تماماً قلت. نظرت اليّ. الكلب كان أجمل، لكن الجمال ليس كل شيء. لكن سيدتي لن أقبل بهذا!. لابد من اختبار ما. اُثبت فيه جدارتي. قضيت أخر ثلاث سنوات من عمري أقدم فيها على وظائف هنا وهناك. على كل مواقع العمل. إذا قبلت الآن، هذه الوظيفة، بهذا الشكل يتحول جهدي السابق إلى عبث كامل. أعرف نفسي. الأمر ليس مناسباً لي على هذا النحو. فاقد الإرادة والعزيمة نعم. لكن العدالة كانت دائماً صفة أتميز بها. لا بد أن تتاح الفرصة للجميع أولاً. ولنرى النتيجة. لا تظني بي خطأً أنني نزيه، لا الأمر ليس هكذا أبداً. الموضوع (الموضوع!) أنني أرغب هذه المرة أن تتم القصة على الشكل الصحيح. صدقيني. صدقيني. أعلم ما أتحدث عنه. قضيت حياتي أرقع فراغاً هنا وآخر هناك. لم أصل إلى أي نتيجة. هذه المرة سأقوم بالأمر على شكلٍ صحيح. لن أهدر الفرصة بنفس الطريقة الغبية التي أهدرت بها الحياة. حسناً. حسناً؛ فلنذهب فوراً. لنقم بالأمر. جلست على الحاسوب لتعلن عن الوظيفة. سيدتي هل انتهيت؟. ثانية. الحياة كلها ثانية. الثانية هي الحياة في هكذا لحظات. سيصل غيري قبلي. عندما جلست كان عدد المتقدمين تجاوز الألف. لا استطيع. لا استطيع أن أفهم شيئاً مما اقرأ على الشاشة، في حال بقيتِ محنية برأسكِ على الشاشة بهذا الشكل. الاستعصاء ليس فيك. انما هو حالي، لا أستطيع مشاركة أحد في هكذا أمور حميمية. أقصد إن وقف أحدهم إلى جانبي يقرأ ما اقرأه. لا استطيع فهم شيء. تشغلني أفكار من قبيل، أين وصل هو بالقراءة؟ ماذا يقول عني؟ هل يفهم ما يقرأ؟ ممكن أن يسألني ويكتشف مدى فشلي في الفهم؟. اختبار. ضغط. هذا كل ما استطيع أن أفكر فيه حينها. أغرق تماماً في الآخر لحظة حضوره. أرجوك المشكلة ليست أنتِ. أنا لا أكره الآخر. بل اعتقد أنه من حق الآخر كرهي، لأن القرب يظهر ما فيَّ من وضاعة.

كيف وصلت لهذه الدرجة من كره النفس؟ بالاستمناء. إذن لو فعلها نرسيس قليلاً لما غرق. نرسيس كان يحتاج الكثير. أما أنا القليل. لو أنه كل مرة نظر فيها إلى نفسه استمنى لما عرفناه اليوم. أما أنا فليس هناك من أحد يعرفني اليوم ولن يعرفوني في المستقبل، ولا أدري إن وُجدت يوماً. هل هذه شكوى؟ لا أعرف. فأنا أيضاً، لا أعرف نفسي. ولست مهتماً بذلك. ولا أطلب من أحد ذلك. أن أعرف نفسي. اعتبرها مضيعة للوقت. لا بد أولاً من معرفة الآخرين. لكن هناك أمور تمنعني من فعل ذلك. مثل ماذا؟ العيون. أي عيون؟ تلك المنتشرة في كل مكان. تلاحقني. أرغب في منعها. لكنها بدون جسد؛ فلمن أتوجه بالكلام؟ هناك فترة كنت محرجاً منها. امتنعت عن الاستمناء. تعرفت على نفسي قليلاً حينها، لكنني كرهتها فوراً؛ فأصبحت أستمني دون اعتبار لوجود تلك العيون. أستطيع أن أقول أنني كنت أصل لمرحلة لا أعود وأراها، تعرفون لماذا؟ هناك أمور لا تحتاج لشرح. لكن تجاهلها كان صعباً في الحالات العادية. تعرفون. عندما أكذب. ينظرون اليّ جميعاً. لم أكن كذاباً حقيقياً، لكن كنت أضيف إلى نفسي صفات لا أملكها، وكثيراً كنت أتحدث عن قصص وكأنها حدثت معي. على المرء أن يضيف أشياء لحياته، بالضرورة. الحياة بشكلها الحقيقي مملة للغاية، رغم كارثيتها حيناً. وأيضاً عندما كنت أهمل واجباً. يا إلهي. أوقات صعبة. كنت أتمنى فيها حضور الله على حضورهم. وهناك تلك العين الزرقاء التي كانت تراقبني. كنت ضعيفاً أمامها. رغم برودتها. تعرفون. عين غريبة. أعتقد أنها هربت من أحد أفلام هيتشكوك. عين ذلك الولد الأحمق الذي طلبت منه أمه. أن يذهب ويلقي عيناً أمام مدرسة الفتيات. ليوقع بإحداهن. قلع الولد عينه اليسرى ورماها أمام الفتيات. الخطة لم تنجح. هناك أمور لا يمكن أن نأخذها بحرفيتها. لا أنصح أحد بذلك. الأشياء لا يمكن أن نأخذها كما هي. لا معنى لشيء في ماهيته. علينا أن نضيف شيئاً، لهذا السبب أحب أفلاطون. لأنه ينقذنا من فخ الحرفية التي لا معنى لها، ينقذنا من رصاصة في الرأس. الأمور في حرفيتها لا معنى لها إلا عند المبتدئين. لكنك لن تستطيع الوصول إلى السماء بالسحر؟ خاصة بما يوحيه شكلك من عقلانية. اها أفهمكِ. أنا بلا مشاعر وخيال، رغم أنني أعاني كثيراً من المشاعر والوهم. لكن هناك أمر عليّ أن أُخبركِ عنه، بالإضافة إلى العيون هناك الأيادي. تجدينها في كل مكان. هناك أيدٍ عظيمة ترفع المرء إلى السماء. وأخرى عظيمة أيضاً، ترمينا في الهاوية. إلى أقصى مخاوفنا. وتلك التي ترافقنا بهدوء لترينا الحياة التي نفتقدها. وأيدٍ علينا التخلص منها، على إحدى تلك العيون نقل حقيقتها. لتكف عن الظهور هنا وهناك. فهي لا تقوم بأكثر من إثارة الغبار. تعمي العيون، حتى تتمكن من الاستمرار. أتمنى ألا أصدفها كثيراً. هل تصفق؟ هناك أيادٍ تصفق، أُفضلها على تلك التي تثير الغبار أو على تلك التي وجودها تيه. لكني أكره ضجيجها. اوه، الضجيج. يكفيني ما يصدر عني. ما بالك والأعضاء، ألا ترى جسداً كاملاً؟. لا أملك من الخيال ما يكفي. أفكر. أحاول. لكن الأمر ليس سهلاً. للخيال روافد كثيرة. أصعبها الأخلاق. الشعور الأخلاقي يتطلب الخيال. حتى تتمكن من تصوّر نفسك في وضعية الشخص الذي تقابله. في ذهنه. في ذهنك. الوصول إلى التفاصيل الأكثر دقة. الخيال مصدر الأخلاق. وأنت سيدتي؟ أستطيع رؤيتكَ. النساء أكثر خيالاً وأكثر أخلاقاً. وأنتَ؟ أراكِ، أرى أعضاء مستقلة. عفواً سيدتي، فلتبعدي هذا الشيء. لماذا؟. يا سيدة الشيطان حاضر بقوة. – فلتصرفه إلى الحمام. الوحدة عاقرة. حسناً هاك يدي. صغير؟. على قده. لاحقني قضيب زوجي طويلاً بعد موته. موته؟. لاحقني قبل أن يولد أيضاً. حاول منعي كثيراً. هكذا هم. قصدت بموته، هل مات حقاً؟ كما مات الكلب. أستطيع تأكيد موت الكلب. زوجي لا أعلم. كان جالساً إلى جانبي في السيارة، عندما رن هاتفي، كان هو. قلت له: ”لا داعي أن تتصل، بإمكانك الحديث بشكل مباشر. لكن لا بأس إن أردت أخيراً أن تكون رومانسياً. تقوم بأشياء مستحبة، تختلف عن طبعك الكريه.“. أجاب حينها أنه غادر منذ ثلاث سنوات، واختفى. اختفى هل فهمت؟ هيه. هل تسمعني يا سيد؟. لا. لا أحب أن أسمع أحد. اتمنى أنكِ أنتِ أيضاً كذلك. هذا أفضل. لم أحب يوماً تلك العلاقات التي فيها الكثير من الإنصات وتبادل الآراء. الأمر بالنسبة اليّ أننا مسكونين برغبة في الثرثرة، فليتحدث كلٍّ منا والآخر ينصت بأقل الطاقات، بما يكفي لنكمل الحديث. بعدها ليمضي كلُّ واحدٍ في سبيله دون ذاكرة ودون حملٍ. حسناً. هل قدمت على الشاغر الصحيح؟. لا أعرف. هل هذا مهم؟ نعم. لأتمكن من رفضك.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة