“فقهاء الظلام” – سليم بركات

تعتبر روايات سليم بركات مصدراً من مصادر  الإلهام للثقافة الشعبية الكردية.وكذلك أثارت أعماله خيال الكتّاب – من الكرد وغيرهم-. وهذا ما يجعل الاقتراب من أعماله ومحاولة تفسيرها أمراً ليس سهلاً  لما تحمله هذه الشخصية من رمزية أدبية، والأصعب من هذا، أن عمل سليم نفسه يحمل الكثير من التعقيد ما جعلني أشعر أمامه أني قليل ثقافة و غبي أحياناً أخرى.

في كل فكرة كتبتها من هذه المادة وكل تفكيك لرمز من رموز وأحداث هذه الرواية ( فقهاء الظلام) كنت أتذكر دريدا في إحدى حواراته التي تحدث فيها عن تجربته في الكتابة عن الرموز الفلسفية، إذ كان يكتب طوال النهار وفي اليوم التالي ينظر إلى الأوراق وكلماته بسخرية قائلاً لنفسه: ”كيف تجرأت وسمحت لنفسي كتابة هذا الكلام، جنون“. حدث معي الأمر نفسه، لكن في كل الأحوال – كوني أقدم نفسي بأني كائن هيغيلي لا يخشى الإخفاق بل أحيانا استعجله لأقف مجدداً في مكانٍ ثانٍ – تابعت حتى آخر فكرة.

❞ قد أصبح في الأربعين عصراً، وفي الخمسين مساء. والليل؟.. لا أعرف. ثمة شؤون عليّ أن أنجزها معك يا أبي، فالدَّورة دورة، سواء أاكتملت في يوم أم في عشرين ألف يوم❝.

الذروة نصل إليها باكراً في  هذه الرواية ، لكن فهم العمل – الخلاصة يضعها سليم على طريقة الفلاسفة الحقيقيين  في النهاية – فنحتاج سفراً بطيئاً وطويلاً في فصول  الكتاب إلى النهاية وقد لا نصل، فبعد عدة صفحات من بداية الرواية  يولد ”بيكاس“ الذي يكبر كل ساعة ثلاث سنوات. قد يكون هذا التسارع في الزمن هو لما تمثله هذه الشخصية من ظهور في تاريخ البشرية، فقد يكون ” بيكاس” نبياً أو فقيهاً أو فيلسوفاً يظهر من حين إلى آخر، كل عدة عصور، بدفتره الأزرق ليصحح أمر البشر، الواقعين في الظلام. هذا الظهور زمنياً يمكن أن نعتبره يعادل  يوماً واحداً في زمن حياتنا البشرية الذي يمتد لآلاف السنين. كما أن معنى اسم بيكاس هو ” بلا أحد”، وكذلك هم الأنبياء والفلاسفة، أليس كذلك؟ وما أكد افتراضي هذا هو ما حدث في الفصل الأخير من ولادة لبيكاس ثانٍ ووجود بيكاس الأول في الخلفية مع دفتره كظل وكأنه يسلم رسالته للنبي الجديد.

لكنني لن أقف طويلاً على شرح رمزية ”بيكاس“ فلا يهم إن كان نبياً أم فيلسوفاً أو أي شيء آخر قد يلتمسه غيري من القراء، سأحاول بدلاً من ذلك شرح ما أجده محوراً أساسياً يمتد على طول الرواية (المعرفة و اللامعرفة): الزمن لإنسان المعرفة والزمن بالنسبة للإنسان العيني، طريقة عيش إنسان المعرفة مقابل إنسان اللامعرفة، هذا التفاوت الذي نراه في كل الشخصيات، المقسومين بين ”فقهاء“ يعيشون على طريقة زرادشت نيتشه منعزلين في جنونهم، وآخرين يعيشون حياة عادية في ظلامهم وفي أماكن كثيرة من الرواية في ظلمهم لبعض، الوحيد الذي لا يمكن حصره في هذه الثنائية هو ”كرزو“ الشخصية التي لا تشعر بها في البداية، مع سير الأحداث تراه يتنقل بين العالمين ويصل بينهما ويحتوي كل التناقضات الموجودة هنا وهناك، ليتصاعد وجوده تدريجياً لدرجة بدا لي أنه أصبح الراوي العليم، أو أنه هو من كتب العمل، أي سليم نفسه.

❞ عمر الإنسان، في الأصل، يوم واحد، ومن يعيشون لسنين هم استثناء»، ❝

هناك اختلاف، حسب بركات، في مفهوم الزمن ومقياسه بين إنسان المعرفة وإنسان اللامعرفة. يمكن فهم هذا الاختلاف بشكل منطقي أو ربما من الأفضل أن نقول بشكل ميتافيزيقي. عند الأول (إنسان المعرفة) الزمن ”عامودي“ حيث الزمانية لا تكون، بل تتزمّن بدءاً من انشغال المرء في فهم العالم، فكلما حدث تغير في بنيته المعرفية، أي تعلم شيئاً جديداً أو حدث تغير في ادراكه للعالم، يزداد عمراً. فيقدم لنا سليم صورة بانورامية لمسار العمر، مسار يفقد فيه الزمن معناه الخطي، لصالح المسار الروحي ل“بيكاس“ الذي ولد من استبصارات والده الطويلة في دفتره الأزرق، يتقدم في العمر سريعاً نتيجة عيشه في المعرفة، فبعد انتهاءه من عملية التزاوج التي لا بد منها – فالتكاثر عملية مخزنة في ذاكرته البدائية، موجودة في خلاياه، يسعى لها حتى قبل أن يفكر بلباس يغطي به نفسه، كما حال جميع البشر(الفصل الثاني من الكتاب) – سنراه يبتعد عن الأحياء والأشياء، ليعيش تأملاته واستبصاراته الخاصة في دفتر أبيه الأزرق، ليعود لاحقاً ويخبر والده ”بيناف“ عن تلك الاستبصارات والنتائج التي وصل اليها ورغبته في إدراجها بالدفتر… أما إنسان اللامعرفة أي العيني، التجريبي، المحايث، أو البروستي حيث الزمانية عنده ”أفقية“ فالكائن في هذه الحالة يحتاج أفق يمتد ليعيش ويحقق امكانياته في الوجود، فلا بد، هنا، من وجود الأبعاد الثلاث للزمن: الحاضر ليحقق الممكنات، الماضي ليتحقق مما حقق، والمستقبل، كما هو الحال بالنسبة إلى كل من عفدي وجهور ومجيدو وباقي الشخصيات التي يبقى بعضها في ذلك الطور البدائي للعيش وبعضها الآخر يتغير بشكل بطيء، فالتقدم بالعمر يكسب المرء المعرفة، عند تلك اللحظة تتغير الزمانية، يتلاشى الزمن الأفقي وتدخل الشخصيات في الزمن العامودي اللامتناهي في تزمّنه كما حدث في حالة العجوز الذي وصل إلى سنٍ يشعر فيه بتوسع المكان، فالمعرفة توسع الآفاق؟ وينتهي إلى العيش منعزلاً داخل صندوق في زمن لا ينتهي، وكذلك يتكرر الأمر مع عفدي الذي قرأ بعض القصاصات من الدفتر واصبحت أصابع المعلم التي قطعها تظهر له في حديقة بيته الخلفية، ثم انتقل إلى العيش داخل نفسه، مثل أي رواقي ومتزهد في خيمته متسائلاً: من المتسبب؟ ، وأيضاً جهور وطمشو الذين بنوا كل واحداً منهم بدوره أسواراً حول نفسه.

هنالك بعد آخر يظهر مع الزمن العامودي: في الظهور الأول لبيكاس والثاني، وهي الثلوج التي تغطي المكان وكأن سليم هنا يحاول أن يمنطق الزمن الميتافيزيقي عن طريق إدخال عنصر فيزيائي يجعل من الزمان مجمداً متحجراً في العالم لتمحو أثار تقدم بيكاس دقيقة بدقيقة لتسمح له أن يرتب أموره ويصعد سلّم العمر. وكذلك الثلوج هنا تذكرنا بالأجواء الأبوكاليبسية التي تمهد لنهاية العالم،  مالم يظهر مخلّصٌ للبشرية.

”يا للقذارة، إنها تسبقني حين أصير حكيماً. لا موضع، في هذا السباق، إلّا للغضب“

في الفصل الثاني من الرواية يقدم سليم شخصيات: هويتها هي الكينونة الطبيعية، أي كل ما تلقاه تلك الشخصيات في داخلها، كمعطى مبرمج لطبعها الغريزي الذي يقودها في سباقٍ حامٍ عبر الظلام لتجد نفسها في حروبٍ وخيانات، ورعب، ومرح ورغبة في الربح وأشياء أخرى لا تسمى إلا في حينها. ”حيوان أنا“ يقولها الحيوان المنوي الذي لا فم له ولا عينين في رأسه المستدير. بشكلٍ متوازٍ يقدم لنا سليم الشخصية الرئيسية الثانية في هذا الفصل ”مجيدو“ الذي لا يتجاوز وعيه (معرفته) عن ذاك الحيوان ويعيش وفق المفاهيم نفسها، يراهن على مقدرته في البقاء حياً مستعيناً بذاكرته البدائية، فيسقط الكثيرين صرعى، كل ثانيةً من سباق العيش.

سليم يبدو هنا مشغولاً في عرض -كما قلت سابقاً – نوعين من العيش والفصل بينهما حيث نرى صياح الدابة المحموم في حياة إنسان اللامعرفة، الإنسان الذي يظهر في الرواية أقرب في عيشه إلى الحيوان، فنرى انعكاس ظله على شكل كلب لا ينفك من صاحبه. هذه النزعة الغريزية، الحسية التي لا تنفع أكثر من كونها تؤكد وجودهم في الحياة، الوجود دون وعيٍّ بالذات، ولا بكرامته الإنسانية ولا كرامة الآخرين ولا يشغل نفسه بفهم ذاته. هوية محضة: حياة حيوانية، كينونة طبيعة، ظلام. في المقابل هناك إنسان المعرفة المحضة، ذلك الكائن الزرادشتي الذي ينعزل عن العالم في الجبال، يتعالى على كل ما هو حيوي. كينونة سلبية: ترى أن الكائن ليصبح إنساناً، معناه عليه أن لا يكون قط محتجزاً من طرف أي وجود معين، فالإنسان الحق -من وجهة نظر فقهاء سليم – يمتلك إمكانية سلب الطبيعة، سواء تلك الطبيعة الداخلية، الحيوانية التجريبية، أم تلك الخارجية، الزمن الطبيعي وما تفرضه الحياة من شروط. بيناف بعد ولادة بيكاس وكذلك بيكاس الأول والثاني بالإضافة إلى كلٍّ من الأشباح التي ترافقهم، وأيضاً كما ذكرت سابقاً العجوز، عفدي في حياته المتأخرة وجهور يفصل بينهم وبين الإنسان (الحيوان) ستار وأسوار، بعد التداخل الوحيد الذي حدث بين الطرفين وانتهى بموت مجيدو، ملك الظلام، على يد الفقيه بيكاس.

”للجثة رائحة تشي بما أصابها“

إن وعي الفقهاء يكمن في معارضة الطبيعة، فتراهم ينعزلون عن العالم، وهذا الانعزال على حين يعتقد فيه هذا الإنسان أنه أصبح حراً، لكن في الحقيقة ليس إلا شكلاً من أشكال ”الموت الرمزي“.، فيتداخل موت بيكاس في العالم الواقعي مع ريش يتطاير هنا وهناك، يبين الكاتب من خلال هذه اللقطة مدى استخفاف الفقهاء بكل ما هو مادي وطبيعي فلا يتجاوز الأمر خفة ريش. الأمر خلاف ذلك للإنسان العيني الذي يسعى بكل جهد للحفاظ على نفسه، لكن موت الآخر ضرورة لبقائه، إلا إذا أصاب الموت شخصٌ قريب، فيتحول موته للدغة وعي تصيب المرء، فينتقل بدوره إلى فقيه يموت رمزياً، كما حدث مع عفدي وطشمو.

”الماء. الماء. (استوى بعرشه على الماء)  (وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ)“

”… من حكمة الانسان في أن يعي حدوده“

كل ما هو تجريبي خاضع للزمن، ومن ثمة فإن نتائجه تتأكد بعدياً، أي بعد حدوث فعل التجربة، تنحصر خصوبة نتائجه في هذه الإجرائية التي تحمل الكثير من الحيوية النارية، حسب الفلسفة اليونانية القديمة التي تتحدث عن النار كأصل للكون. في المقابل هناك الهواء، اللاشيء الذي يتمثل هنا بالروح العدمية للفقهاء المنعزلين. يستحضر بركات هذا النزاع بأكثر من فصل، لكن لمن ينتصر سليم؟ لا هذا ولا ذاك – ربما لهذا جمع الفقهاء مع الظلام فهو يرى بطريقة ما أنهم غير بعيدين عن بعضهم – إنما يرى الأبدية للماء، الذي يتخلل ويتأقلم مع كل أشكال العيش، وبأصعب حالاته عندما يواجه النار يصبح أكثر سخونة وقد يسلب منه القليل لكن هو هناك أبداً. من يمثل الماء في هذه الرواية هو كرزو، تلك الروح المشاغبة التي تنتقل بين العالمين وتتواصل مع كليهما. تعيش الزمن في واحدة ويتساءل في الأخرى فهو بحاجة إلى التاريخ، الوجود هنا، كما هو بحاجة لأن يعلن ذاته، ولأن ينفتح ويتعالى، يتموضع ويظهر، قبل أن يعود فيحقق وحدته وهويته. يعيش شقاءه وشغبه ليعود ويعلن عن ذاته، بين ما تبقى من الشخصيات في الرواية وهنّ النساء اللواتي يعدن سرد التاريخ وتستعيد ذواتهنّ بعد أن رحل بيكاس الثاني بلابسه الأنثوي – يبدو أن سليم هنا يرمز بالثوب إلى أن البشرية تصبح أقل عنفاً وأكثر أنوثة وتحضر مع الزمن – وتبقى شجرة الزيتون الحاضرة أبد الزمان مكانها،شاهدة. مهما مرّ عليها من فقهاء الظلام.

كنت أتمنى الحديث أيضاً عن أكثر شخصيتين في العمل احببتهم وهم خاتي وسينم، وكذلك عن الفكاهة الموجودة في العمل، لكن ربما في وقتٍ آخر.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة