لا يوجد قارئ. أين هو؟ لماذا لم يُحدث الكتاب أثراً إلى الآن؟

لقد نشرت كتاباً، لكن لا يوجد قارئ. أين هو؟ لماذا لم يُحدث الكتاب أثراً إلى الآن؟

هناك طريقتان للكتابة. أولهما هو أن تكتب ما يفوق جموع الناس أو عكس فهم الجموع وهذا النوع من الكتابة التي توصف بالعبقرية وتحتاج إلى وقت طويل وأمد بعيد حتى يستقبل ويعطى قدره. الثاني هو أن تكتب ما يتناسب مع الجمهور أو حتى أقل منه وهذا النوع يمكن أن يطلق عليها الكتابة الموهوبة وهي سريعة الوصول وتحدث أثراً مباشراً، حيث يتمتع الكاتب هنا بمواهب عدة إلى جانب الكتابة وهي فهم الوضع الحالي وما يرغب به القراء في أيامه وكذلك التسويق.

هل الرواية العربية بخير؟ مجموعة الكتّاب الذين أجابوا عن هذا السؤال في إحدى المواقع العربية، كانت إجاباتهم أقرب إلى “لا” السبب؟ عدم أو صعوبة وصول أعمالهم إلى القراء بسبب مشاكل النشر، أيضاً عصر ثقافة الجوائز ورداءة الاختيارات، القارئ يلام بطريقة ما أيضاً على حد قولهم.

لكن هل هذه الأجوبة تتحدث عن الرواية أم إحباطات الكاتب الذاتية؟ اعتقد الثانية، لأني لا اعتقد أن حال الرواية يحدد بالوصول لأنها ليست ألبوم غنائي أو فيلم سينما- مع احترامي للسينما واستغرابي أنها لم تتحول إلى مادة دراسية حتى الآن- تقاس حال الرواية بالتغييرات التي تحدثها في المجتمع بالجدل والنقد أما الانتشار والوصول فيكون لصدى تلك الأعمال أي تأثيرها على من لم يقرأ ذلك العمل أصلاً، كما حدث بعد مدة من إصدار همنغواي لروايته “لا تزال الشمس تشرق” عندما تحولت قصة شعر البطلة إلى موضة عند النساء كإشارة إلى التحرر وكذلك ترحال ومخالطة الرجال من قبل النساء وتقبل المجتمع للأمر.

كما أن هذا الميل للوصول والانتشار ونيل التصفيق ليست من الكتابة العبقرية بشيء فهي أقرب إلى سياسي أو حكواتي يطلب جمهوراً مباشراً يتفاعل معه لحظة بلحظة، بينما الكتابة هي رسالة من إنسان متوحد إلى آخر متوحد، تدريجياً، يزداد عدد الذين قرؤوا العمل، وهذه العملية تحتاج وقتاً طويلاً. أتذكر عندما قرأت المسخ لكافكا، كنت جديداً على عالم القراءة، ولم أرَ أنها تستحق كل هذا الاحتفال، مع الأيام عندما كان يحدث معي موقف معين كنت أتذكر غريغوري وفي لحظات أخرى أتذكر قلقه بالوصول إلى العمل وفي وقتٍ آخر أتذكر كيف أصبح وحيداً متعفناً بغرفته، بهذا التذكر، الذي كان على زمن متباعد، أدركت مدى عظمة الرواية. فالكتابة العظيمة كما ذكرت في البداية هي إما مكتوبة بطريقة تعلو الجموع أو عكس الجموع فتحتاج وقتاً إلى أن يصحى لها الناس وتصبح ذات قيمة وكثيراً ما يكون ذلك الوقت بعد مضي زمن طويل جداً على إصدار العمل كما حدث مع كثير من المبدعين والفنانين.. أما من يرغب بالتصفيق السريع فعليه أن يكتب شيئاً مع الجموع أو أقل منه وبذلك يكون الكاتب تخلى عن العبقرية لصالح أن يصل بسرعة، لا بأس بذلك أيضاً إن كانت هذه غاية الكاتب.

قد يكون مرد نمو هذه الرغبة في الوصول بسرعة إلى أكبر عدد من الناس وتحصيل القيمة الفوري يعود إلى أسلوب الحياة المعاصرة السريعة وكذلك وسائل التواصل حيث عوّدت الجميع على اللايك.. وكذلك عندما يرى الكاتب قراءات لقراء عن كتّاب آخرين فيشعر بنوع من الظلم أن كتابه لم يقرأ بعد ويكتب عنه، وكل هذا يمكن تفهمه ولكن على الكاتب أن يدرك أيضاً أن الأمور والتقدير الإبداعي لم يكن بهذا الشكل والسرعة أبداً ولن يكون إلا إذا وصلنا إلى اليوم الذي يحمل العمل على الكمبيوترات وهي تكون من الذكاء الكافي لتقوم بعملية التقييم.

الجوائز؟ التفكير فيها يعيق الكتابة الإبداعية حيث يصبح الكاتب تحت ضغط تقديم عمل قبل موسم الجوائز، خاصة وأن الجوائز في العالم العربي أقرب إلى البيست سيلر في النيويورك تايمز- حيث تكافئ الكاتب وتساعد في نشر العمل – منها إلى جوائز النوبل والجوائز الأخرى في الغرب التي تعتمد على شروط وتقييم مختلف. كما أن تقديم الجائزة يقوم على مقارنة كاتب بآخر.. وهذه المقارنة تنتقل من لجنة التحكيم إلى الكاتب نفسه حيث لم يعد يبحث في داخله عن عمل عظيم يقدمه بينما يكتفي أن يقدم عمل أفضل من زملائه أو هذا أقصى ما يذهب إليه.

قرأت الكثير من الردود التي تتحدث أن أهمية الجائزة في قيمتها المادية لتتيح للكاتب التفرغ وهذا من حق أي كاتب ليس أن يعيل نفسه من الجوائز فقط بل أن تحقق أعماله دخل مباشر، لكن هل الأمور في العمل الإبداعي تحدث بهذا الشكل؟ عندما نقرأ عن حياة الكتّاب القدماء نرى أنهم إما خلقوا ميسوري الحال أو أنهم عاشوا بعوز أو عملوا بمجالات أو وظائف إلى جانب الكتابة لتغطية مصاريفهم..، كما أن هناك تصوّر لا اعتقد أنه دقيق عند الكاتب الشرقي الذي يظن أن جميع الكتّاب في الغرب في العصر الحالي يعيش على عائدات نتاجه الإبداعي، وهذا غير صحيح حيث نادراً ما يحدث، بالتأكيد أن الحال أفضل هناك من منطقتنا لكن ربما لأن الوضع الاقتصادي بشكل عام أفضل .. وأيضاً هذا الربح محصور أكثر بين الصحفيين وليس الكتّاب ولذلك نسمع في الغرب مصطلح كاتب نهاية الأسبوع وحتى مثقف نهاية الأسبوع حيث يعملون بمهن مختلفة خلال الأسبوع لتحقيق مورد مادي.

يعاتب القارئ على ذوقه وأن هناك أعمال لا تستحق أي قيمة وتحقق أرباحاً مادية ( البيست سيلر) ؟ إن كان هناك كتاب ضعيف حقق مبيعات فالمشكلة بالأساس في وجود كاتب قدم هذا العمل وبدرجة ثانية يقع اللوم على وجود ناشر طبعه. وأخيراً القارئ لكن لا يحق لأحد معاتبة المستهلك، حيث له حرية أن يختار ما يرغب به رواية ”طقطوقة ”يتسلى بها في طريق العمل، أثناء العمل، بعد العمل، على طريق السفر أو ربما يقرأ عملين أحدهما “جدي” و آخر “خفيف”. لا يمكن أن نلوم شخص لأنه يقرأ للمتعة أو يقرأ دون تركيز لربما تكون هذه الإمكانية الوحيدة المتاحة له بعد يوم عمل طويل ومتعب.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة