لماذا الرواية الفلسفية؟

لست أنوي الحديث عن رواية سارتر ولا فلسفته، إنما أنوي النظر في النثر الفلسفي أو الرواية الفلسفية وأهمية هذا الأسلوب التجريدي من الكتابة، رغم أنني أرى حيوية في غثيان سارتر تفوق حيوية كثير من الروايات الحكائية، لكن بالعموم هي رواية فلسفية مثلها مثل روايات كامو وغيره من الأسماء التي أكررها دائماً. النقطة التي أريد توضيحها هي أن الكتب الفلسفية لا يقرأها الجميع وأغلبنا بالتأكيد لم يدرس الفلسفة ولكن بإمكاننا جميعاً الاستفادة من قراءة الرواية الفلسفية بشكلٍ كبير. الاستفادة ليست فقط على صعيد عالم الأفكار المجرد وهي طبعاً واحدة من الفوائد، لكنها تفيد أيضاً على صعيد حياتنا الواقعية -لست أدري عدد الأشخاص الذين يعانون من حالة انطون في العالم الحديث ولا يستطيعون فهم ما يمرون به من الفراغ والغثيان ولكن مهما كان عددهم سيجدون إجابات كثيرة في الرواية لواقعهم- وبالإضافة للأمرين السابقين هناك استفادة ثالثة بالغة القيمة وهي أن هذه الكتابات تفيدنا كثيراً في قراءة غيرها من الروايات، نفهمها من خلال الأفكار التي أخذناها من هذا النوع من الكتابة يعني من يقرأ ”ثوب أزرق بمقاس واحد“ سيقرأ كل حكاية فيها امرأة تلد أو شخص تغيرت حالته الجسدية، قراءة مختلفة تماماً عن الشخص الذي لم يقرأ أي كتاب أو رواية عالجت هذين الحدثين فكرياً.
قرأت عدة روايات عن الحرب السورية لكن لم أتمكن من خلال أيٍّ منها فهم عمق المشكلة والصراع الفردي والجمعي – السياسي والاجتماعي كما حصل معي عندما قرأت مسرحيتي سارتر (الجدار) وكامو (العادلون)، مع تمييزي لنقطة الخلاف هنا مدركاً أن المسرحيات هي نثر درامي، أخذ وعطاء قصير على شكل حوار وهي كشكل كتابة أسهل لهكذا نوع من المعالجات، لكن أردتها مثالاً توضيحياً كما الحال مع الغثيان، بمعنى أن هذا النوع من الروايات تطرح مشكلة وتعالجها، هذه المشكلة هي مشكلتنا على قدر ما هي مشكلة الكاتب نفسه، وتعالج من قبل مفكر يفوقنا فكرياً على شكل حكاية قريبة منا.
وبالتأكيد، لا بد من ذكر أن هناك محاولات لكتابات فلسفية تخرج منفرة لأن من يكتبها ليس لديه رؤية فلسفية واضحة وفي كتابته تصلب منفر، لكني أتحدث عن المتمكنين فكرياً، بالإضافة إلى نقطة، قد تكون مهمة، وهي أنني لا أنصح بقراءة هذه النوع من الروايات إلا ضمن ما يهم المرء نفسه من مواضيع، يعني إذا لم تكن راغباً في معرفة حالة الإنسان المعاصر، فلا شيء سيكون أكثر كآبة أو ملل من قراءة الغثيان لأن هذا النوع من السرد يحتاج أن يكون القارئ يأبه فعلاً بالمشكلة المطروحة حتى يتحسس ما يجري من أحداث داخل ذلك السرد المجرد. وبالنهاية أضيف أنني على الصعيد الشخصي لا يمكنني أبداً تخيل الأدب دون هذا النوع من الكتابة وهي الأقرب لنفسي.
——————-
إضافة:
تأملات في رواية لم أنتهي منها بعد “الغثيان”:
لا بد أن كل من يقرأ الغثيان يلاحظ أن انطوان لا يقوم بأي شيء سوى المراقبة، مراقبة الأشياء التي تدور من حوله ولا شيء منها يحدث له، وفي أكثر لحظاته حياةً، نراه يدخل في حالة من الترقب، ترقب ماذا؟ المغامرة، التي لا تأتي، وإن حصلت تحصل بسرعة كما لو أنها تحصل فقط لتذكره بالحياة التي ضاعت منه. يعيش انطوان في حالة من: (اللاشيء، المراقبة، الترقب) وهو المأزق الذي يرى سارتر أن كل فرد في مرحلة ما بعد الحرب يجد نفسه فيه لأن أسئلة من نوع الآخر والعلاقات الإنسانية والمسؤولية تصبح حاضرة وتبدو عبثية جداً حالها حال الإنسانية في نظر أنطوان الذي يدخل في نقاش مع العصامي ذو النزعة الإنسانية. آمن العصامي بالنزعة الإنسانية بعد نجاته من معتقلات الموت التي أسر فيها، نجا من الموت بأعجوبة، أي خرج من الحرب حياً، أما انطوان لا نجد في وجهه ملامح الحياة، كما لو أنه لم يعد حياً “وجهه لا معنى له” وهو كل يوم أكثر شبهاً بالجثة التي سيكونها، رغم أنه يعترف بنفسه أنه لازال يرى في نفسه بخجل شديد كائناً لكن كائن ميتافيزيقي فهو لا يعمل ولا يذرف ذاته ولا يقوم بأي شيء كما لو أنه ذات تعيش في مرحلة ما بعد الموت، كما لو أنه واحد من شخوص سارتر في مسرحيته “لا مفر” الذين يستمرون في العيش بعد موتهم، يعيشون في جحيم من صنعهم ومحكوم عليهم بالعيش فيه، لا مهرب، ولا يمكنهم الخروج حتى عندما يفتح الباب لهم، فلا مفر في زمن اختفى فيه الموت من مكانه المعتاد: المستقبل، وأصبح فيه شيئاً من الماضي. فقد الإنسان في هذه الحالة المعنى عندما فقد الموت نفسه المعنى.
ماذا الآن؟ ليس هناك من شيء أثقل وأسخف من الموت سوى غيابه، لأن بفقدانه لم يعد هناك من مخرج، في غيابه نصبح عالقين هنا، لا مخرج ولا مفر ولا معنى من فعل أي شيء، لم يبقى لنا سوى الانتظار مثل استراجون وفلاديمير بيكيت، انتظار ماذا؟ حدوث اللا-حدث.
أردت من هذا إعادة طرح سؤال: لماذا الرواية الفلسفية؟
هذا الغياب للموت هو الذي جعل الحكاية مستحيلة وأصبح التجريد هو الامكانية الوحيدة المتاحة؛ لروايات ما بعد الحرب، وما بعد الفقد، لأن وجود الحكاية لا بد أن يترافق مع زمن معاش، لا بد من بعدي البداية والانتهاء، العيش والموت، كل شخصية تعيش في حكاية تحمل في داخلها احتمالية الموت أو الخروج ، أما في غياب كل هذا، لم تعد الحكاية ممكنة وليس هناك من حبكة تسرد، كل ما في الإمكان فعله هو تقديم تأملات مجردة.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة