نافذة جديدة

 

دخل ك إلى غرفته الباهتة إلى حد خارق للمألوف في إحدى الفنادق المكسيكية. عائداً من كازينو خسر فيه كل ما جناه من تجارته بالمخدرات. بدا وجهه شاحباً كما لو أنه عبر من تلك الشوارع الخالية من كل شيء إلا القناصين.. في ذلك التجريد والعراء والعنف تخرج من الإنسان تلك النسخ المتخفية في جوفه، نسخ تخلق دونما جهد وفي طرفة عين. بدا كما لو أنه فرد قذر من عصابة وليس تاجراً، لم تعرفه كلابه، نبحت، وعضت بعضها البعض. مات ك من الخوف وركضت ف إلى الشرفة وقفزت بشكل لم يسبق له من مثيل.

ينتهي الفيلم، بمشهد ك يمشي وحيداً في شارع مظلم وفي الأعلى ظل امرأة وكلب خلف ستائر النافذة الوحيدة المضاءة في ذلك الشارع. انتهى الفيلم بلوحة شبيهة بإحدى لوحات فان كوخ الذي يرسم خطوطه بضربات من ريشته كما لو ان كل شيء آذاناً ينوي بترها.

كان ك راضياً عن أدائه، وكذلك المخرج والمشاهدين إلى حد ما بالفيلم عندما عرض بالصالات. كانت استراتيجية ك بسيطة، وهي اتباع ما يطلبه منه المخرج والمصور حتى مكياجه ولباسه لم يعترض عليهم أبداً. كان يقوم بما هو مطلوب منه من قبل الجميع. حافظ بذلك على وجوده كممثل لا يحقق نجاحاً ولكن لا ينبذ أيضاً، كان همه الوحيد أن يكون لأسمه مكان ولو في ذيل القائمة أو يسحل سحلاً، لا فرق. كذلك كانت حياته، هادئة لا مكان لحزن أو فرح إلا من بعض لحظات النشوة التي كانت تحدث عندما يعرفه أحد المارة في الشارع ويطلبون منه سيلفي. بعد ذلك يعود لحالته الآلية من العيش. مثل ك في العديد من الأفلام وكذلك في الحياة، حيث قام بدور التاجر وعاش كبائع، كما قام بدور اللاجئ وفي كل الأدوار كان رجلاً ميؤوسٌ منه.

كانت الردود على فيلم ك الأخير جيدة من قبل القليل من النقاد الذين دفع لهم المخرج ما يكفي ليكتبوا. باستثناء مقال واحد هاجمت صاحبته الفيلم، واصفةً إياه أنه واحد من تلك الأعمال المليئة بالعنف والنهايات المأساوية المكررة دون أن تنطوي على مهارة خاصة، ودون أن تتجاوز حقبة مضت بنهاياتها الغامضة التي لا توصل الهدف الذي يرغب المخرج إيصاله ولا يقدم فيه أي حل. الفيلم عبارة عن تكرار لثيمة اخترعها أصحابها ليقدموا أنفسهم بطريقة فريدة. لكن هذا التكرار يبدو كما لو أنه طريقة للانتماء إلى شيء ما: إلى شيء يعيد نفسه، المأساة. كما تحدثت أيضاً عن ك، الذي بدى لها ممثلاً سيئاً لأنه دخل في عقل المخرج أكثر من اللازم وبذلك قدم جدية والتزام أكثر مما يجب، افقد بذلك المشاهد قوتها حيث كان مزيفاً كما لو كان صدى لشيء لا الشيء نفسه. كان ك عبارة عن قشة فيتغنشتاين التي تغطي الثقوب في العمل الفني دون أن يكون ثقباً (فناناً) وليهدأ ك ضميره كان يقدم أفضل نوع من القش، الجدية البائسة. ربما كان من الأفضل أن يكون رديئاً مثل زملاءه، لتحول الفيلم إلى تصوير هزلي ومسلي لتلك الأفكار التراجيدية.

نظر ك إلى قطار يمر بسرعة عالية، عبر المحطة، أوجه الركاب فيه غير واضحة، كما هو وجهه وكما هي الحياة بالنسبة له، غير مفهومة. فكر ليكون وجهه واضحاً عليه إما أن يرمي بنفسه تحت القطار ليكون له وجه مرة واحدة ويختفي للأبد، أو أن يركض بسرعة القطار لتتضح ملامحه وليصبح بمقدوره فهم الحياة.

ركض ك وركض إلى أن وصل لموقع الجريدة التي نشرت المقال وتوجه مباشرة لمكتب الكاتبة. خلف الطاولة وجد امرأة ذات وجه حاد وأنف مغرور، ملامح يهابها الرجال ويحبونها، الذكاء. وقع ك في حبها وشعر برغبة شديدة أن يزحف ليصل إلى باطن يديها لتمسح عن رأسه طبيعته البائسة وتبرر وجوده المزيف. تقدم خطوة وقال جملة إسبينوزا: ” كل الأشياء تحاول أن تكون نفسها“

-إلا أنت، أجابت.

-تكرهينني؟

-لا أحب من يتصرف على نحو آلي، من ينفذ ما يطلب منه دون بصمة.

-تكرهين الآلات.

-لا، أكره فقط القضيب الاصطناعي.

استأذنت منه الكاتبة بعد ذلك، متعذرة بانشغالها بمظاهرة. تحركت بكرسيها ذي العجلات من خلف الطاولة. لحقها ك على طريقة الرومانسيين المستعدين دوماً للانتحار، مع فارق الإرادة الصلبة التي انتقلت له من الكاتبة لتحقيق شيء ما. قفز باندفاع الشاعر الغنائي الذي ينشد نفسه، لكن ك كان ينشد احياء ذاته.

كانت مظاهرة مشتركة لذوي الاحتياجات الخاصة والعاملين في الجنس. يطلب فيها القسم الأول الاهتمام بحياتهم الجنسية التي أهملتها المراكز الخدمية الممولة من الدولة، كما أنهم لا يستطيعون عيشها بدون مساعدة، والعاملين في الجنس يطالبون بتشريع مهنتهم ليقدموا خدماتهم للمجتمع. امتلئ ك بالحماس وبقي يركض خلف الكاتبة كما لو أنها الشمس. هتف أكثر من الجميع، معه كل الحق، اختفاء ملامحك الشخصية تعتبر إعاقة أيضاً؟

في اليوم التالي. في الاستديو، كان ك يوجه الملاحظات للتقنيين ويضيف إلى طريقة عملهم تقنيات جديدة كما قدم فكرة لتطوير حركة الكاميرا. بدا تصرفه للجميع وكأن مسه الجنون أو الهذيان. وراح يمثل كما يملي عليه فهمه للأحداث. ضحك حين طلب منه المخرج الغضب، وأصبح يضيف إلى الحوارات قصص قرأها لتعطي للحالة عمقاً معرفياً أكثر من ايحاءات خارجية. وفي الليل كان يكتب ايميل طويل عما قام به في النهار للكاتبة مع بعض المبالغات. الحديث عن الذات للآخر محكوم بالإفراطات والمبالغات سواء أكان بالسلب أو الإيجاب. هذا ما لا بد منه.

اقترب ك من كائن فضائي. حسب السيناريو المكتوب ينتهي الفيلم عند هذه اللحظة من انعدام لغة مشتركة بينهم ليمهد الفيلم إلى جزء ثاني وهو هجوم الكائنات الفضائية على البشر في محاولة لتدميرهم. لكن ك بدلاً من ذلك اقترب من الفضائي بابتسامة ليحقق تفاهم، ليس على طريقة فيلم الواصلون الذي يحقق فيه المخرج التفاهم عن طريق فك شيفرة اللغة الفضائية، انما اتبع ك طريقة الانسان البدائي في التواصل بالإشارات. توقف ك والفضائي أمام بعضهم وفي خلفية المشهد شجرة ترقص بفرح لوصول المياه إليها، وكاميرات تحلق في ذلك الفضاء لتسجيل لحظة قبول الكل بالتواجد في فضاء مشترك. النهاية.

لم يحصل ك على أي جائزة حتى الآن لكنه شرب الكثير من النخب في صحة ما يقومان به، هو والكاتبة.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة