نحن والذكاء الاصطناعي

النقطة البديهية والمهمة بالنسبة لهذه التطبيقات ChatGPT وأمثالها أن لها جانباً اقتصادياً، سياسياً ونفسياً كما هو حال كل تطبيق ومنتج في العالم. في الحالة السياسية الخطر هو في أن يُمرر ايديولوجية وأفكاراً يرغب بإقناعنا بها مسؤولو التطبيق أو من يدفع لهم في إجاباته لنا. اقتصادياً سيكون مثل أي تطبيق آخر ربحه يأتي من مدى استخدامنا له. يهمه أن تبقى نشيطاً على التطبيق. قدر المستطاع. يعني مزيد من الوقت على الهاتف. ومثل الفيس واليوتيوب سيقدم لك أشياء تحبها. وتحب أن تعرف أكثر عنها، فتبقى مدة أطول، وأطول. كيف سيفعل ذلك؟ ما أكثر ما يرضيك في الحوار؟ أن تكون الإجابات صدى لذاتك، لتبقى مدة أطول على التطبيق وأنت ريلاكس وسعيد من نفسك ومن الآخر-الآلة؟

في حال افترضنا أن التطبيقات هذه خالية من أي جهة مستغلة خلفها. تطورها الطبيعي مع المستخدم. أن تصل إلى قول ما يرغب في سماعه. أن تصبح هي: أنت. نسخة شريط. فيصبح حالنا شبيهة بحال “كراب“ في مسرحية بيكيت ”الشريط الأخير“. ”كراب“ الذي لا يقوم بشيء غير الجلوس والسماع لأشرطة كان قد سجلها في سنوات ماضية. سماع نفسه. لكن كراب هذا عندما يسمع ذاته الماضية، يسخر منها ويغضب من غباءها. يشتم ويوقف التسجيل. ينزعه. كثيراً ما نقوم بما قام به كراب، بحذف وإخفاء والشعور بالخجل من تلك المنشورات التي في الميموريز. لكن في حالة التطبيق هذا سيُسمع المستخدمين ما هم عليه اليوم، ما يتوافق مع أفكارهم وشخصياتهم في لحظتهم الحالية. بمعنى أن المستخدم هنا لن ينزعج -كما في حال الميموريز- من سماع صدى نفسه بالعكس سيكون غالباً راضٍ، لأن التطبيق يحاكي عقله ومعرفته الحالية. لن يكون، إذن، ذلك الكراب، المعزول والساخط على الحياة وذاته القديمة. لا. إنما سيكون كراب المعزول والسعيد في نفسه حد الهبل.

-2-

التطبيق لازال ليس ذكياً كفاية أو ليس ذكياً ليولد هو بذاته جواباً ذكياً. فهو مثل أي خوارزمية سابقة يتعامل مع العالم على أنه عبارة عن بيانات رقمية، ولا يعلم بوجوده الحقيقي. ولا يميز الصحيح والخاطئ من المعلومات المقدمة له، كما نستطيع نحن في الواقع. نميز بين العبارات ودلالاتها. إن كانت حقيقة تمثل شيء أم لا. بالإضافة إلى أنه عاجز عن تشكيل علاقة بين الأشياء المدخلة إليه. فهو يستقبل البيانات دون أن يفهم الرابط بين هذه الموضوعات. لا يعرف أصلاً أنك أنت وما تتحدث عنه حقيقةً موجودين في العالم وأن للمدخلات تمثيلٌ واقعي. ما يجعلنا ننخدع بفكرة ذكائه هو ما نظنه عنه أكثر مما هو عليه في الحقيقة، فعندما نسأله نظنه يفكر أولاً ثم يعطي الإجابة، لكنه في الحقيقة لا يفكر، انما يستخدم الكميات الهائلة من البيانات والمواد التي على الانترنت ليقدم إجابة معقولة إلى حد ما. من خلال المطابقة والتحليل البسيط جداً، يجيب بشكل لا بأس به خاصة في بداية أي حديث معه، في حالة ChatGPT يمكنه سرد نكتة غير عفوية وكتابة نص لا روح فيه ويبرع في كتابة البرامج الحاسوبية… عموماً كثير من ردوده خاطئة بشكل كبير في عصر لدينا فيه مسبقاً وفرة من المعلومات غير الدقيقة.

مثال بسيط: اثنين قاعدين على طاولة بكافيه و أمامهم فنجان واحد من القهوة. التطبيق لا يمكنه معرفة أنهما مع بعض ولا يستطيع معرفة ما تعنيه لهما تلك الجلسة ولا لأي منهما ذلك الفنجان من القهوة. هو قادر على معرفة مدخلات من أن هناك مقهى و شخصان وطاولة و فنجان قهوة. دون أن يتمكن من ربطهم و فهم علاقاتهم ببعض. وهذا بعيد عن أي عملية تفكير.

-3-

هل سيتمكن الذكاء الصناعي من كتابة نص أدبي أو رسم لوحة؟

خلينا نتفق أنه من خلال البيانات المزود بها قد يتمكن في يومٍ ما، ليس بقريب، من صناعة شخصية غريغوري سمانثا لكن لا بوادر أبداً عن أنه من الممكن أن يصبح هو: كافكا.

عموماً هناك تياران في العالم بما يخص هذه الرؤية الإبداعية والفكرية للذكاء الصناعي:

الأول، يرى أنه من الممكن أن تتملك الخوارزميات القدرة على معالجة ما كتب إلى اليوم من الأدب بالكامل ويتمكن بعد هذه العملية من إنتاج نصوص بنفس مستوى الأعمال السابقة أو حتى أن يصل إلى مستويات أعلى جودةً. بعض المفكرين اليوم أصلا ينظرون إلى التفكير والوعي على أنه فايروس أصاب الإنسان وبقي معه لليوم. وأن كل العمليات في الدماغ يمكن للآلة أن تقوم بمثله في حال استطعنا كتابة الخوارزمية المناسبة.

الثاني، يرى أنه لا يمكن للآلة فعل ذلك. لأنها ببساطة قد تتمكن من توليد عبارات منطقية جداً، لكنها أبداً لن تتمكن من فهم ما يولد مشاعر الحزن والفرح والتشويق لدى القارئ وتوليد العبارات المناسبة لذلك وفي توقيت يتناسب مع سرد الحكاية. علاقاتنا العاطفية مع الآخر واللغة وثقافتنا هي جزء من النظام العصبي للبشر الذي لا يمكن محاكاته ولا إعادة إنتاجه بمساعدة خوارزميات معينة.

أنا أقرب بالرأي إلى الثاني، فمنذ فرانكنشتاين شيلي. اللغز كان دائماً هو القدرة على ضخ الروح في ذلك المخلوق-الآلة. أو شيء شبيه لتلك الروح التي لدى البشر، لتمكنه من أن يصبح ”بشرياً تقريباً“. أن يشعر بالألم، ويخشى الموت، ويكون عرضة لضروب الإيمان وفقدانه، الوعي بالخطيئة، الشر والنعمة .. هذا ما يميز كل كتابة بشرية وهذا هو روح الأدب. يعني قد يتمكن من انتاج غريغوري لكن لا أظن أن يكون حقيقياً كما هو غريغوري كافكا.

بالإضافة إلى نقطة ثانية هو الرابط البشري، ورغباتنا المشتركة. ورغبة التواصل مع إنسان آخر من خلال قراء كتبه أو لمس ضربات فرشاته على اللوحة.

 

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة