نصف صوت جهنمي

أحياناً، يراودني شعور مفاجئ بالندم، لا لشيء محدد. تندم هذا هو الأمر. دون أي سبب على الإطلاق. يستمر هذا الشعور لعدة أيام. وكثيراً ما أندم لأسباب أدركها، لذكرى تنغر روحي. إن أحببت أن أقدم بعضها، لأمكنني ذلك؟ نعم، فأنا أمشي في مناطق مفتوحة، لا بشر فيها، ليلاً ولساعاتٍ طويلة. هذا يعطيني وقتاً كبيراً لأتذكر. أشياء فعلتها. وأشياء لم أفعلها. أتذكر تلك الفتاة التي قلت لها في المدرسة، أمام التلاميذ: جدتي لا تستحم ولك نفس رائحتها. أشعر بالمرارة. أسرع الخطى. أرغب بالهروب، من وجه فتاة أتخيله مائلاً إلى اليسار ومصفراً من الرعب إلى اليوم. من وجه الطفل الذي كنته. يتجسد في مخيلتي، له ملامح كل الأشخاص الذين يرمون عبارات قطعية، ويبتسمون. وجه كريه. أتذكر، أمي وهي تطلب مني الذهاب إلى السوق لأحضر لها أغراضاً. أرفض. تطلب مني الأمر نفسه، جارتنا. أركض، فيسقط وجه أمي من الحسرة.
-كم ستمشي بعد؟
-إلى أن أغسل كلَّ ذنوبي.
في الليلة الماضية، بعد عدة ساعات من المشي. سألت سيدة عن الطريق للوصل إلى حانة اسمها ”أن تعيش، يعني أن تندم”. بعد أن تجعد جبينها، في محاولة للتفكر. أخبرتني أن زوجها يمكنه مساعدتي لكنه مات “في مثل هذه اللحظات أفتقده بشدة؛ فجبهته المتجعدة كانت عبارة عن خريطة للمدينة“. تلك الحانة لا وجود لها. اختلقت الأمر. من عادتي، اختراع مواقف لم أمر بها. وكذلك أضع لنفسي محطات زائفة، لأكمل السير، لا أكثر. أن أجعل لكل هذا اللهاث معنى. أفضل ما فعلته تجاه نفسي هو تعلم الكذب. لنستمر علينا فعل شيء ما بهذا الواقع. الكذب. الخيال بالنسبة إلي. أما للآخر فلا اسم له سوى الكذب. لما يحمله، غالباً، من ضررٍ له. مثل هذه السيدة التي ذكرتها بزوجها المتوفي. لاحقاً، سأتذكر الأمر وأندم. وهناك مرة تخيّلت الحب، فأخبرت أول فتاة صادفتها بأني: أحبها. عشت على هذه الفكرة فترة. ثم انتبهت إلى الضرر الواقع عليها. توقفت. لكن نزيف الآخر لم يتوقف. لا بها ولا بي. اتهمتني بالكذب. لم أحاول اقناعها بأنه مجرد خيال. تقول السيدة:
– أظنها هناك.
– تظنين؟!!
– ما بالك مع الظن؟
– عشنا لوقت طويل على الظن.
– لا يقين.
– لابد من بعضه.
سأتوقف عن اشراك الآخرين في الأمور التي أتخيلها. لكن لن أتوقف عن اختراعها. عشت في البحر. مدة سنة. وحيداً في سفينة صغيرة. أكتب عن صعوبة تلك التجربة. رغم أن أطول مدة قضيتها في البحر. كانت 186 صفحة مع عجوز همنغواي. فكرة ترك الأرض والتوجه للعيش في البحر.. خطرت لي عندما حاولت أن أضع، للدوار الذي أشعر به، منطقاً. أو ربما لأنني قرأت مرة أن مياه البحر تطهر النفس. هناك أمورٌ كثيرة فعلتها. أرتعب، حين مرورها في ذهني، من نفسي. أحتاج التخلص منها. أن تذهب مع الأمواج. إلى شاطئٍ بعيد. كثيراً ما أستيقظ من النوم. بسبب شعورٍ مرير من الندم، فأخرج للمشي، ساعات، أيام، سنة…
– العمر كله.
– تسلم يا رب.
تشعر شخوص همنغواي بالراحة في الحانات. بالنسبة لي، فكرة الجلوس في الحانة، قبل أن أبدأ بالعودة من كل شيء، تريحني. رأيته هناك، همنغواي، أخبرني عن ضرورة التحلي بالأناقة في المعاناة. هذا ما حاول قوله في كل رواياته. وكذلك لا جدوى من النصر. تحدث أيضاً عن ضرورة الحذف عند الكتابة. أحذف أي جزء من القصة، شرط أن تعرف بالضبط ما تم حذفه. هكذا، تعطي النص مزيداً من القوة. تمنح القارئ شعوراً بأن هناك الكثير، أكثر مما تم الكشف عنه. حسناً. فكرت. هكذا أصبحت قصصي الآن. غير مفهومة. لا أفهمها. لا أحد يفهمها. اللعنة. فيها فراغ يشبه تلك التي خلفتها الرصاصة في رأس همنغواي.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة