هايدغر وبارت في معرض فني لل AI؟

بما أن الإعلان من الآن عن حدود الذكاء الاصطناعي تبدو خطوة متهورة، فكما نرى ما يزال هناك الكثير مما قد يصل إليه هذا الذكاء طالما أن ”التعلم الآلي“ في تقدم مستمر. والخوارزميات تتطور طامحة بأن تجعل من أي شيء موضوعاً لها. وكذلك لا ينبغي أن ننسى القفزات المفاجئة التي تحدث في عالم التك من حين إلى آخر، قفزات تحدث كما هو ملاحظ بشكل أسرع حتى من قانون مور الذي نصّ على تضاعف القدرات الحاسوبية كل ثمانية عشر شهراً، كل هذا يجعل الحديث الموضوعي أمراً صعباً حول إن كان بإمكان أداء الآلة تجاوز قدرة البشر أم لا. وبالتالي يبدو أن لا مناص لنا من التخلي عن فكرة وجودنا الفريد في هذا العالم والتفكير أن هناك جهة أخرى (AI) قد تقدم فناً بمستوى يساوي الذي نقدمه، ربما أقل أو أعلى كل شيء وارد. وأن نفكر بردود فعلنا تجاه هذا الفن. اخترت لليوم كلٍّ من هايدغر وبارت، لما لهما من فوارق واضحة في تنظيرهما عن الفن والعمل الفني.

لننطلق بداية من هايدغر: إن أصل العمل الفني يكون على شكل 

الفنان<—> العمل الفني <—> طريق الفن

 في هذه الحالة، إن الفنان هو على نحو أساسي أصل للعمل الفني كما أن العمل الفني هو أصل للفنان. ما يعنيه هايدغر هو أن تجربة الفنان في عيشه. معاناته. تعبه في صنع فنه كلها مكون أصيل وتدخل في صلب تلقينا للعمل الفني. كذلك المادة التي استخرج منها الفنان عمله، لها دور في تقييم وتلقي العمل الفني. عرض لنا في هذا السياق لوحة ”ڤان كوخ“ التي تحتوي على حذاء الفلاح. إن ما يعنينا في هذه اللوحة ليس موضوع جمالي محض أي ليس الوجود المجرد للحذاء – الذي يعتبر قبيحاً ولا شيء إن اسقطنا الاعتبارات الأخرى للمشهد. إذن الحذاء هو أداة صالحة للاستعمال وتم استعمالها بالفعل حد الاهتراء من قبل فلاح، فيمثل لنا الحذاء شقاء الإنسان، شقاء الفلاح وطبقته الاجتماعية بالكامل ”تجسم عالم الحياة الريفية كله في هذا الحذاء“. وهي تعني على نحو ما ڤان كوخ مشاء البراري نفسه. 

محتوى الفن في حالة هايدغر لا يقوم في ذاته، بل إنه موجود بشكل حقيقي في العالم، أداة مختبرة، يختبرها إنسان، قد يكون في بعض الحالات أداة الفنان نفسه مادة للفن، بكل الأحول هذه الأداة تمثل عملاً بشرياً تتلقاه ذات الفنان من خلال معرفته، تجربته في الحياة ومن خلال ذات الفنان تصبح موضوعاً فنياً. بمعنى أبسط فإن عرق الفنان ومعاناة الفعل الفني هو جزء أساسي من العمل الفني وتقييمنا واستقبالنا له. وهذا أمر يفتقد في فن الذكاء الاصطناعي، فلا ذات خبرت الحياة خلف هذا المنتج المقدم من قبله. لا معاناة لا خبرات ولا يدرك أن عمله يأتي من مادة حقيقية في الحياة ولا يعني له وجود مادته بشكل واقعي في العالم بشيء.

في حالة رولان بارت: العمل الفني.

(موت المؤلف) —> العمل الفني  <—> طريق الفن

يعتبر رولان بارت أن تاريخ الفنان (المؤلف) ، شخصيته، ذوقه وأهوائه لا يمثل شيء في العمل الفني. وأن الفن هو الذي يتمثل من خلال الفنان وليس الفنان من يصنع الفن. فاللغة هي التي تتكلم في النص الأدبي وليس المؤلف. وأن تاريخ الفنان لا يعني شيء أمام تاريخ الأدب ككل. كما لا يوجد هناك داعٍ للتركيب والربط بين الذات والفن. يظن بارت أننا اليوم بلغنا التحول النهائي في الكتابة المحايدة وغياب المؤلف ” الكتابة في الدرجة صفر“.

ضمن هذه النظرة فإن غياب الذات في فن الذكاء الصناعي لا يعني شيئاً. وعامل التاريخ ككل محقق كشرط فني في عمل الذكاء الاصطناعي، بما أنه يعتمد أساساً على البيانات المتوفرة لديه على امتداد التاريخ البشري. ما قد يهم بارت بشكل أكبر وربما المعيار الوحيد هو القدرة على المحاكاة الناجحة من قبل الذكاء الاصطناعي لقدرات الإنسان الفنية. وتوليد ما هو مفهوم وقابل للتلقي بعد ذلك ندخل في عملية تقييم له لا تختلف بشيء عن أي عمل فني بشري، فالعمل الفني هو أصل وجوده بالنسبة إلى بارت.

العمل الفني والحقيقة:

بالنسبة إلى هايدغر الحقيقة هي تطابق المعرفة مع الشيء. فلا بد للشيء نفسه أن يظهر بوصفه شيئاً. ليقوم الفن بعد ذلك بالكشف عن حقيقته، جوهره. أما لبارت الحقيقة مفتوحة بشكل أكبر أمام كل تأويل يراه المتلقي. ويمكن للحقيقة أن تكون لاحقيقة، فلا حتمية مباشرة ولا جوهرية واضحة يمكن تحديدها. 

وكذلك منظورهما للغة، رغم أن لغة الاثنين شعرية لكن هايدغر يعتبر اللغة -الشعرية بشكل خاص- هي أداة لإحداث الشرخ في الظواهر، للكشف عن حقيقتها. أما بارت فإن كسر القواعد وعدم الوقوف كثيراً في عملية التجويد اللغوي يعتبر موقفاً ابداعياً.

وبالتالي فإنه مرة أخرى من خلال موقف الاثنين حول الحقيقة واللغة -الحقيقة التي لا يميزها الذكاء الاصطناعي واللغة الآلية له- نستطيع قول أن هايدغر سيرفض حضور معرضٍ فني -رسم، كتابة، موسيقى- للذكاء الاصطناعي أما بارت سيذهب ليقرر إن كان ما سيراها هو فن أم لا دون حكم مسبق.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة