بعد أن أغلقت البارات أبوابها، وأطفأت البيوت أنوارها، وبدأت الخفافيش جولاتها الإجرامية وذلك بتحويل الليل إلى جثة هامدة تهبط على أجساد الساهرين. كنت أسير بدون وجهة /بشكل أدق ربما مستسلماً لمسارات الطرق فبعد ان تصل إلى منتصف تاريخ صلاحية جسدك وتأخذ نصيبك الكامل بالحظ العاثر، تصبح محبطاً بشكل كافي لتفهم ان تعيش بدون وجهة/ على أحد جسور نهر التايمز، محني الاكتاف والرأس كما لو كنت في حالة توسل دائم.
وصلت إلى هنا بعد أن حلمت خلال غفوة قصيرة بأنني أقود قارب صغير في نهر التايمز، فتنهمر علي أحجار لونها بني وكبيرة من السماء، بعد أن امتلئ القارب توقعت ان يغرق بسبب الحمل أو تدمر بالكامل، أراني اطير مع القارب باتجاه السماء.. لم أكن أشعر بالذعر ولا الاستغراب كنت حياديا وباردا اتجاه الحدث كما هو حياد المدن اتجاه ساكنيها.. في اللحظة التي أجد فيها نفسي هائما في الغيوم الرمادية أدرك أني في حلم، استيقظ منه على استنتاج ان السفينة لو غرقت لكنت حاولت السباحة الى السطح مجددا، ولو انها قاومت الغرق لكنت بقيت أيضا على السطح أي الواقع في الحالتين السابقتين.. أما الطيران باتجاه الأعلى على عكس كل ما هو منطقي فالحلم ينبهني من مدى انفصالي عن الواقع.
الأحلام، غالباً أرى نفسي في البحر او النهر ربما لأني اعتقد ان رحلة حياة الفرد الذاتية تشبه العيش في البحر ولو كنت املك قدرات كتابية أتصور لكنت كتبت عن شخص يفك حبل القارب الذي يربطه بالميناء لينطلق في عيشه وفي بداية رحلته تحميه حواجز الميناء وعندما يصبح في عرض البحر يصارع امواجها، بروح الشباب، ليحقق طموحاته.. القليل ينجز ما طمح له ويصل إلى جزر يرتاح فيها لفترة والأغلبية تتعلم العوم في الحياة، بعد أن حطمت ارواحهم الأمواج، إلى أن تتفسخ أجسادهم. أما الأرض فهي للأحلام التي تكون اجتماعية أي رحلة البشر الجمعية. ذات ليلة، حلمت بأني في غابة أفريقية بصحبة فتاة، كنا جالسين داخل سيارة مموهة بالخضار ليصعب رؤيتها ومغطين انفسنا ايضا بالأعشاب كما لو كنا في كمين او متخفين وعندا هجم علينا بعض الحيوانات استيقظت بكل هدوء مردداً سؤال لم القلق؟ لم القلق؟ تمكنت من رسم هذا الهدوء والبرود على وجهي الذي أصبح شاغراً بعد تدريب طويل لأن الانفعال يثير انتباه الآخرين ولطالما كنت ميالاً إلى أن أكون شخص غير مرئي.
مشيت في طرق لندن التي بدت بهية حتى وصلت الى زقاق ينتهي بمربع ضيق ومغلق، فكرت أن هده الساحة يجتمع فيها اهل الزقاق ليتحدثوا فيه عن مأزقهم .. العمل والحد الأدنى للأجور والمعونات والاجارات وانهم هم نفسهم يشكلون مأزق لهؤلاء الذين يقطنون في الاحياء الفارهة التي يتحدث ساكنوه عن الفقراء واللاجئين والضرائب وفكرت ايضا ان الجميع على حق لكني فضلت السير الى الاحياء الغنية لان همومها اقل وطأة على النفس. خرج شخص من احدى الابواب التي كنت أمر إلى جانبها برفقة كلب، عندما مروا بي لم ينظر الي الرجل على عكس الكلب الذي بدأ بالنباح، لطالما كنت اثير انتباه الكلاب اكثر من البشر او ربما اختلط المشهد على الكلب في تلك اللحظة بين وجه صاحبه الذي يبدو وكأنه خرج للتو من الثلاجة ووجهي الشاغر. بقي الكلب ينبح إلى أن صدم بزعيق صاحبه به، يبدو ان الكلاب لا تتوقع جواباً ابداً في ذروة خطابها.
جلست الى احدى المقاعد الموجودة بكثرة في الحدائق الصغيرة وبما انني لا املك عيون متأملة وحالمة كما لدى هؤلاء الذين يكسبون عيشهم من التحديق إلى أمواج البحر، فتحت الموبايل لاقرأ بقية المقالات لكاتبة صادفت مقالاتها على الفيسبوك.
في بعض الأحيان عندما اقرأ، أبدأ في التفكير بشيء آخر، لكنني أواصل القراءة، وتمر فقرة، وعلى الرغم من أنني قرأتها، لكن رأسي يكون في مكان آخر.. حيث شردت هذه المرة في رد الكاتبة نفسها على الرسالة التي بعثتها لها معبراً عن مدى ذهولي بما تكتبه، قمت بذلك ايمانا مني بعصر ذهبي بالتواصل البشري التي وفرتها السوشيال ميديا وكما اني ارى ان هذه الوسائل سهلت على كل المنتجين والمبدعين رؤية وقع ما انتجوه على الناس بشكل سريع ومباشر من خلال ريفيوهات ورسائل المستهلكين دون الانتظار الذي كان في عصر من سبقونا حيث ينتظرون المبيعات والسوق، لكنها ردت بطريقة قاسية جعلني اشعر كما لو أني متحرش او مفترس ولكني بررت هذا الرد بحكم ما تتعرض له المرأة، لكني بنفس الوقت لم اكن راضيا بحكم دفع كل فرد ضريبة ما يقوم به الاخرون. فتحت الملاحظات وسجلت إلى جانب اسمها ” يا ستي لا تواخذينا إذا اعجبت فيك“ وأضفت“انني لست من المجموعة التي تعيش بشكل جماعي على اليابسة انا فرد يعيش في البحر وحيدا لا يمكن محاسبتي لما يقوم به البقية“ ولكنني وجدت انفعالي هذا يبدو رومانسيا لاني تذكرت غبد الحليم الذي يغرق ويغرق وإن كانت هذه هي الحالة فربما تكون هي على حق. تابعت بعد ذلك القراءة الى أن قاطعني رجل يبدو أنه جلس على الكرسي المقابل دون ان انتبه له قائلاً ”عليك ارسال صورة لوجهك الى احدى شركات انتاج الدخان ليقوموا بوضعه على علبة السجاير“ لم اجب وفكرت ان الجميع يبدو وحيداً والكل لديه الرغبة في التواصل مع الآخرين لكننا جميعا نخطئ بالتعبير والوقت.
فتحت الملاحظات مجدداً وكتبت ” يجب أن انتحر، أن أضع الطلقة برأسي على طريقة همنغواي وأنهي العالم كله“ اغلقت التلفون ووضعته في جيبي كما لو أن الأمر تم. ثم توجهت إلى العمل بعد أن بزغ الفجر وبدى ان كل شيء سوف يبدأ من جديد.