قضيت 61 يوماً متتالية في العمل، دون أي يوم عطلة. كنت أعمل 12 ساعة يومياً، بالإضافة إلى ساعتين أقضيهما في الطريق. كانت بطات قدماي تصرخان وأحياناً تقفزان من تلقاء أنفسهما إلى الأمام كما لو كانتا تحاولان الهرب مني، صحيح أني أطعم جسدي ولكن بطريقة ما كنت أطعنه أيضاً. أما قدماي فلم أكن أشعر بهما وكان الحذاء أكثر حقيقة من حقيقة وجود قدم بداخلها. في اليوم 30 أصبحت أشعر أنني جزء جامد من المحل، مثل أي قطعة معروضة للبيع أو من المفروشات. نبهت زميلي في العمل أن لا يُخطئ ويقوم في بيعي، بعد ذلك فكرت أنه لربما من الأفضل أن يقوم بذلك، لربما يكون مالكي الجديد أفضل.
العمل والذهاب إليه والعودة منه والساعات التي أقضيها هناك، لم تكن لها أي معنى ولا رغبة لدي في الحديث عنها مطلقاً. لكن لا أحد يستطيع تجنب التفكير بحيّز كبير من يومه.
الحديث عن العمل هو الحديث عن ذات تتحقق وتكون فاعلة ضمن العمل، لكن الكثير منا يذهب إلى العمل لتأمين مطالب الحياة. عمل بالإكراه. فلا حاجة للحديث عن أي وقت لا تملك فيه حرية الحركة والترك.
حتى أشعر ببعض الحياة، أصبحت أستيقظ مبكراً ساعتين عن وقت العمل، أقضيهما في المقهى. هذا الصباح، أستيقظت على صوت نباح كلبٍ، الأصح أن أقول أنني لم أنم، لأن الوقت الذي قضيته في الفراش لم أشعر به وكذلك جسدي.. كنت أتصرف بطريقة مضطربة ومباغتة مثل واحد أُنْتُزع فجأة من غفوة قصيرة ولم أكن أميز بين الأزيز الصادر عن الأرضية وأزيز ركبتيّ. لم أستطع أن أرجع سيد نفسي بشكل فعلي إلا عندما أزحت الستار عن النافذة وألقيت الضوء على الأشياء من حولي كما لو أني أقوم بعملية تفسير للكون. في الخارج، كانت الأشجار بالكاد تتنفس، على عكس الكلاب التي كانت تتقافز وتركض كما لو أنها تملك رغبة دائمة في أن تكون في مكانٍ آخر. نباح الكلاب في المدن يحل محل صياح الديوك ولكن بدون ساعة ثابتة وذلك يناسب المواعيد المختلفة لذهاب الموظفين والعمال إلى أعمالهم.
حملت معي الكتاب والرغبة في القراءة من الغرفة وخرجت. في الشارع، التقيت برجلٍ بدا متأثراً بالهدوء السائد في المدن في الساعات الأولى كما لو كان يتجه نحو الهاوية.
عند دخولي المقهى، استقبلتني آنا بابتسامة من بعيد، آنا التي تكاد تكون شروق الشمس في حد ذاته. كما كل يوم نطقت اسمها بطريقة خاطئة حيث ناديتها أنا وهي تصحح وتقول آنا. عندما طلبت منها الكرواسان واللاتيه، شعرت في حيرة من مشاعري تجاهها بين نفور وانجذاب، حب وخوف، شعوراً لم يكن مفهوماً في تلك اللحظة. بدت لي امرأة منغلقة ومنفتحة تخفي خلف حيويتها ومرحها شبح الموت، تراه في عيناها للحظات ثم يختفي. حملت صحني وتوجهت إلى إحدى الطاولات، بينما على الطاولة المجاورة، جلس رجل انكليزي بلباس بحار، له شعر أبيض كثيف كما لو كان طائر النورس، توجه إلي بالحديث كما لو كان يعرفني دائماً، أخبرني أن لدي جواً فرنسياً، أجبته ب oui وضحكنا. قرأت لبعض الوقت رواية لبيتر هاندكه، كنت أتوقف عن القراءة بعد كل مقطع وأغوص في ذكرياتي حيث أنتقل من أحداث الرواية إلى حياتي الخاصة، بأسلوب هاندكه البسيط ،الكثيف، الواقعي والذكي يتحول الكتاب إلى صديق تتسامر معه على أطراف بحيرة مهجورة، فكان يخبرني عن بطلته التي قررت فجأة بعد سهرة مع زوجها، دون ذكر اي سبب لقرارها، ان تنفصل عنه وتبتعد عن الجميع لتعيش وحيدة. وأخبره انا عن رجل يقضي الكثير من الوقت في تخيل أشكال وطرق مختلفة للانتحار.
لاحظت أن رجل النورس طلب كأساً فيه ثلاث قطع ثلج، ثم أخرج من جيب سترته زجاجة وسكب ما في داخلها بالكأس. أردت أن أفكر في تلك اللحظة أن ما سكبه لم يكن فودكا، وأن الصباح يمكن أن يستمر في العمل بشكل تقليدي حيث نكتفي بالقهوة وأن ما شربه رجل النورس كان ماءاً. وتخيلته بطريقة ما تحوّل إلى سمك السلمون. وعند تلك اللحظة أخبرني أنه وفقاً لنظرية Big Rip، نظراً لعملية التوسع اللانهائية للكون، فإن المجرات ستنفصل عن بعضها البعض، وبما أن الجاذبية ستصبح في النهاية ضعيفة جداً، فإن المجرات ستتفكك وستتفكك بذلك الكواكب، وتصبح قدرتها على التماسك مستحيلة، وأن كل شيء سوف يتحول إلى ذرات معزولة عن بعضها وأن طاقة السراب هي ما ستبقى فقط في النهاية. وتوقف عن الحديث دون أن أعرف بماذا أعلق على ما سمعته، وأحياناً عندما لا أعرف المتحدث مسبقاً، أقول أشياء لا علاقة لها بأي شيء تقريباً، كما لو كان رأسي خارجاً عن قوانين علم الكون، وقلت اعتقد أن كمية الماء في زجاجتك أقل من تلك الموجودة في قطبيّ القمر وضحكنا، ثم أخبرته أنّ تحديد موقع مركز الكون ليس بسيطاً مثل تحديد موقع القطب الشمالي: حيث هناك خمس طرق لتحديد القطب الشمالي ولكن يوجد مركز للكون في كل رأس من رؤوسنا.
على الطرف الآخر، كانت آنا تنظر إلى جميع زبائنها كما كانت تنظر آنا كارنينا إلى عشيقها فيرونسكي، وكانت تنظر إلى جهتنا من حين إلى آخر وتحرك رأسها بالموافقة كما لو كانت سعيدة بحديثي مع رجل النورس. عندما اقتربت منّا أخبرتنا أنها قرأت أنّ النساء قبل إلقاء أنفسهن في الفراغ، عادةً ما يخلعن أحذيتهن كما لو كن ذاهبات إلى الفراش.
همست في أذني أنها مستعدة لترمي نفسها معي في الفراغ والهرب بعيداً عن هذه المدينة. حركت رأسي بالموافقة دون وعي كامل لما أنا مقدم عليه. فهناك كلمات لفظها جميل وتحمل بمعناها الخلاص ولا يمكن إلا أن تبدي الموافقة أمامها، بالإضافة إلى التحول الذي حدث معي من شخصية ما قبل الحرب إلى شخصية ما بعد الحرب ويمكن وصف التحول بإيجاز: قوائم رشيقة، نحيلة، مستعدة للانطلاق دوماً. فمن يذوق طعم الهروب مرة، من المستحيل أن يتراجع عن هذه الاستراتيجية بعد ذلك. لأن للهروب لذة مغرية لا يكف من يُقدم عليها من إعادة تكرارها. لكن للقيام بهذه العملية عليك أن تتخلى عن اللامبالاة المرسومة على وجوه الموتى أمام الحياة.
عندما عادت آنا كانت قد خلعت ملابس العمل من مريول وحذاء وارتدت سروال أحمر، كانت تمشي مسرعة، رأسها متقدم عن جسدها، وعيناها ترمقان المحيط بتكشيرة صياد محبط، كانت تبدو كما لو أنها في سباق وحرب مع الجميع. استسلمت لها عندما أمسكت يدي. عندها عرفت أنّ حياتي السابقة أختفت. غادرنا المقهى دون إحداث ضجة كبيرة، واختفينا على طريقة العصافير، حيث تميل من النافذة وتطير من هناك.