لم أكن أفعل أي شيء. في الحروب، في أيام العطل، لا أفعل شيئاً، لأنها ليست أوقاتاً مناسبة لفعل أي شيء. جلست أتمعن جدران الغرفة الباردة: أربعة جدران، سقف قريب وأرضية زلقة. صندوق مصمم بشكل محكم ومناسب حقاً للموت. ولكن الموت يحدث في مكان بعيد جداً. ومن بعيد، كل الأمور تبدو مختلفة. أطفأت النور واستلقيت. الاستلقاء في الظلام هو حقيقةً مثل تدريبٍ على النهاية. بقيت هكذا، ميتاً وبارداً، إلى أن ظهر صديق من شاشة الهاتف على شكل مآتة خائبة، عجوز ضخم لعين عاش حروباً كثيرة. ” ولم أمت يا صبي“. حروب طويلة بما يكفي لدرجة تخوّله أن يمنح نفسه لقب ”خبير حروب“ دون أن يكون الأمر تلفيقاً. لكن اللعنة، من يهتم بالحقيقة؟ يا سيدي ولا الأخلاق.. هذه على وجه التحديد تختفي تماماً في الحروب. خرج من الشاشة ليخبرني عن مفارقة، لأنه يظنني أحب المفارقات. يقول مفارقة وأصحح له بأني أبحث عن التناقضات وليس المفارقات. ولا يفهم الفرق بينهما أبداً. وهذه حقاً ليست بمصيبة لأنها حالة عامة وقد اعتدنا الأمر. لا أحد يفهم أي أحد. قال لي أنه في طريقه إلى المقبرة رأى حفلة. سيارات فارهة، ألبسة فاخرة، مشروبات باردة وكل هذا، لقد نسوا الموتى بالفعل. سألته دون أن أعني أي شيء: والأخلاق؟ ”أصبحت نكتة يا رجل“. قلت له بالنسبة لي كل حرب هي حالة من عدم اليقين، وأضفت: أنا هنا أخوض مع نفسي حرباً باردة على أرضية زلقة. قال: أفضل من الساخنة، لكن الشتاء غير مناسب هذه الأيام، ولا المطر. الحرب يقين والشتاء غير مناسب لنا ولا المطر. أخبرني أنه سيواصل الهبوط، لا شك، نحو المقبرة، ليجلس إلى جانب قبر الإنسان المفقود ويدخن في انتظار نهاية الحرب. ”المقابر تُشعر المرء بالهدوء، هدوء الاحتضار“. أخبرني أيضاً أنه كرّس حياته لأمر واحد: انتظار نهاية الحرب ومن بعدها الانطلاق مسرعاً في جولة للبحث عن الرسائل التي تركوها العشاق لمحبيهم، ليقوم بجمعها وايصالها للشخص المحبوب. قال إنه اتخذ هذا القرار بعد درسٍ مرير لقنته إياه الحرب الفائتة، حين نجا ولم يجد حبيبته. بحث عنها في كل مكان دون جدوى. صديقتها أكدت له أنها تركت خلفها رسالة مليئة بالحب وختمتها بمعلومات عن المكان الذي توجهت إليه. لكن الرسالة اختفت ولم يتمكن من الوصول إليها. ” لا أريد هذا المصير لأي أحد ينجو من هذه الحرب اللعينة وكل هذا“. طلبت منه التماسك حتى لا يفقد من عقله أكثر مما فقد. أجاب بأنه إلى الآن لم يشك في النظام الكوبرنيكي ولا الحب وأنه يفكر بجدية بأن يتوجه بعد الحرب لقسم الفلسفة لتعلم الحرب والسلم. الحرب والسلم ردّدت العبارة الأخيرة مرات وأنا أفكر في جد ميلوش هرما، بطل هرابال، المنوم المغناطيسي الذي خرج ليواجه الدبابات الألمانية التي ظهرت عند أبواب براغ بقوة التنويم المغناطيسي. أراد ايقاف آلة القتل بقوة العقل، وانتهى مصيره، بكل تأكيد، إلى الدهس تحت عجلات الدبابات. تذكرت جد ميلوش، وودعت العجوز، الذي لا بدّ أن ينجو كما ينجو في كل مرة.