خراب غير مرئي

 المشهد في الخارج ثابت على مجازر في الطرقات، تقدم تقني سريع في السيلكون فالي، رصيد جيف بيزوس يتضاعف، غابات تحترق، وسحابة دخان تنتقل عبر الهواتف، وتحجب الحياة عن البشر. اما في الداخل، في الغرفة، كان شافيل يعيش حالة حمل عاطفي زائد.

بدأت القصة عندما عاد الى منزله من العمل ليجد فيونا ـ الفتاة التي تعرف عليها في رحلته السابقة ـ  تنتظره في غرفة الجلوس بعد ان سمحت لها شريكته في المنزل بالدخول، توجهت اليه فيونا بقبلة طويلة كما لو انها ترغب بسحب التردد الذي كان بادياً على وجهه. سألها شافيل ان كانت ترغب بشرب الويسكي ام الواين؟ أجابت بأنها جميلة ومضحكة

ـ صحيح لكنك لم تجيبي بعد.

ـ انا جميلة ومسلية.

عندما رأت شافيل لازال ينتظر جواباً تابعت ان وجودك معي لا يحتاج الى كحول ليصبح المعيش محتملاً، فأنا اتمتع بالجنون ما يكفي لحياة جميلة دون مسكرات ولا اطباء نفسيين. 

توجه شافيل الى النافذة ونظر الى الأفق البعيد، وهذه طريقته المعتادة لتبسيط الأمور في الحياة الواقعية حيث ان اتخاذ خطوة الى الأمام في هذه اللحظة أمر يسير وكذلك الأمر في العودة الى الخلف. حيث انه في الخيار الاول، خطوة الى الأمام، يكسب حريته المطلقة وفي الثانية، الى الخلف، يكسب حياته، لكنه فكّر ان تجربة الحب هي ايضاً تجربة لقاء بالموت في خضّم الحياة وهي تجربة قصوى في الحضور. سكنت خاطرة اخرى في رأسه انه اذا كان الإنسان محكوم بالتواجد الاجتماعي وخسران الحرية الفردية من اجل ذلك فإنه يفضل ان يخسر حريته لصالح شخص واحد فقط وهي هنا فيونا، التي يشعر اتجاهها بانجذاب غير مفهوم فشافيل على الرغم من قناعته النظرية ان الحب هو تماما كما التعبير الانكليزي في وصفه ”الوقوع في الحب“ اي انها حالة لا تفسر بالعقل، اي سقوط مفاجئ لا منطقية له ففي الحب التفكير شكلاً من أشكال الترف الذي يؤذي ولا يفيد كما هي في الحالة الحاسمة والأخيرة. ولكن شخصيته العقلانية تدفعه الى ايجاد تحليل مقنع للحالة العاطفية ولإسكات زعيق عقله قدم له بعض الاسباب بأن فيونا تمثل النقيض منه او المكمل له في اندافعها بالحياة مقابل انهزامه اي الجرأة مقابل الجبن، الحدس مقابل العقل، البربرية مقابل الحضارة وهي صفات طالما رغب بوجودها في شخصه ليصل الى الكمال البشري.       

حُسم التفكير عندما اقتربت منه فيونا وحضنته بقوة من الخلف وكأنها تسحبه الى الحياة. اخبرها شافيل ان ما برأسه من خراب يشبه مدينته حلب بعد الحرب وان الحياة بين الانقاض سيكون صعبا لها وانٌ رؤيته للحياة تغيرت بعد ذلك الدمار فما كان بالنسبة له طبيعيا في الماضي اصبح غير مطاق وأنه في يأس تام، اجابت انها لا تمانع في العيش في تلك المدينة، لأنه اذا كانت الحياة معك عبارة عن المسير داخل أطلال مدينة مدمرة وعلي توخي الحذر مع الأنقاض الملقاة في الشارع، فإنه كذلك في كل مكان في اي شارع حيث عليك ايضاً توخي الحذر مع السيارات.

عندما توجهوا الى غرفة شافيل، بدأت بالعبث في تنظيمه للغرفة، فادرك شافيل ان حياته القديمة تنهار، حيث بدأت فيونا باللوحة المعلقة وهي لوحة الصرخة التي هي عبارة عن شخص تجسد على وجهه ملامح الفزع بعد اعلان نيتشه عن موت الله، فقلبت وجه اللوحة الى الحائط كما لو انها ترغب في انهاء الزعيق الصادر منه، معبرة عن ذلك بأنه اذا كان الله قد مات فلا داعي للتفكير به بعد اليوم وان الحياة غير مفزعة بغياب الآلهة. جلست الى مكتبه وفتحت شاشة اللاب توب لتجد مواقع اخبارية وصفحات السوشيال ميديا ونظرت الى شافيل بفمها الذي يفتح ويغلق دون صدور اي صوت كما لو كانت ترغب في توبيخه لكن الكلمات هربت منها بسبب الصدمة، فدافع شافيل عن نفسه بأن لا سلطة له على نفسه بهذا العالم الافتراضي ليغلقه فهي تشبه الحالة التي في رواية فرانكنشتاين فبعد ان صنع كائنا بواسطة التقنية فقد السيطرة عليه واصبح يعيش منفصلاً عنه، كذلك هي حال حساباتي على السوشيال فكثيرا ما ارى نفسي غارقا في هذا العالم لاعبر عن اراء في ترند معين واجد نفسي انبح على صفحتي عاكساً بذلك مقولة ماركيز من ”عشت لاروي“ الى ”عشت اونلاين لأنبح“ وبعد ان اغلق الكمبيوتر وتعود السيطرة لذاتي يتملكني شعور رهيب من الندم، وتتحول الغرفة، مكاني الامن، الى فجوة تشبه تلك التي خلقتها الطلقة في رأس همنغواي، 

ابتعد شافيل قليلا للبحث في البراد عن البيرة، عندما عاد وجد فيونا وهي تقوم بحذف حساباته علي السوشيال واخبرته ان تواجده في العالم الافتراضي هو لانهاء شعوره بالوحدة وان حالة العزلة التي يعيشها تحولت الى موضة في العصر الحالي بعد ان كانت محصورة بالفنانين وانها ايضا تعاني من الشعور بالوحدة وان هذا الشعور زاد عندها بعد قراءة الشعر لذلك هي تتجنبه حالياً وخاصة في الليل، لان ذلك يدفعها لشرب الكحول الذي يجفف الاوردة لشدة ما تشعرها به من حزن، فالشعر لا يكتفي في نقل الصورة للقارئ بل ينقل كل ما يشعره به الشاعر من حزن ال داخلها. لم يعجب شافيل هذا التحليل وفكر في طردها كما فعل ذلك افلاطون في طرد الشعراء من جمهوريته لكنه اكتفى بالصمت. اضافت بعد ذلك ان شعور الوحدة لا يفارقها الا عندما تشرب او تمارس الجنس، واخبرته ايضاً انها في إحدى المرات وبعد ان شربت الكثير ذهبت الى الفراش مع فتاة لها ثديين كانا صغيرين وابيضين للغاية، وانها شعرت بوحدة شديدة لدرجة انها فكرت في ممارسة الحب حتى لو مع فتاة، وأنها بدأت تتلمس جسد الفتاة، عندما تأوهت والقت برأسها الى الخلف، بدأت في مص ثدييها بعنف كما لو ان إلقاء الرأس الى الخلف اشارة على الموافقة، وعندما انتهت فيونا من الحديث ارخت بجسدها وألقت برأسها الى الخلف، بعدها فقدت هي شعورها بالوحدة وفقد شافيل الشعور بذاته.                 

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة