العجوز والسبام

البحث عن عمل، سواء أكنت تعمل في الوقت الحالي ام لا، هو نشاط لابد منه لكل إنسان في العصر الحالي. لأنّ الوظائف غير ثابتة، فلا أحد يعلم اللحظة التي يمكن أنّ يطرد فيها، ولا اللحظة التي يمكن للمرء أن يختنق فيها من وظيفته لدرجة أن يخرج من الباب ويطلق قدميه للريح بحثاً عن هواء في مكانٍ آخر. وأيضاً هناك دائما احتمال انهيار الشركة، وهذه تعد موضة في أيامنا، حيث تختفي الشركات وكأنها لم توجد قط. خصص شافيل لهذا النشاط ثلاث ساعات متوزعة على مدار الأسبوع، وذلك بضغط زر التقديم بشكل عشوائي، في مواقع تحفظ فيها بياناتك وترفع ملفك مجرد تقديم الطلب.

رغم كثرة ما تقدم له من شواغر ولكنه لم يسمع رد من أحد، كما لو أنه ينفخ في الريح، إلى أن جاءه ايميل يطلب منه القدوم إلى الشركة راكضاً، ليجروا معه مقابلة وأنّ الأمور إن سارت على مايرام فإن عليه أن يبدأ بأسرع وقت. قرأ إعلان العمل مجدداً لم يفهم منه شيء سوى أنّ المطلوب بعض الخبرات الجيدة في برامج الحاسب، وهذا شرط محقق، والتعقب الذي لم يفهم مايعني ذلك. قرر الذهاب بكل الأحوال. بعد صراع مع خزانة الملابس من أجل اختيار ماهو مناسب، فالشركات تتوقع منك القدوم في لباس رسمي كما لو أن المقابلة حفلة رسمية لتتويج بطولات المرء في الحياة وبما أن شافيل ليس في رصيده أي عمل بطولي، كان يشعر بعدم الراحة في هذا النوع من الملابس، ولكي لا يبدو أنّه رافض لكل أنواع البروتوكولات المتفق عليه بين البشر، ويقع اللوم عليه في الإخفاق، قام بتسوية من نوع ما، بأن يلبس شيء بين الرسمي والعادي. نظر إلى نفسه بالمرآة كان وجهه يبدو أكثر فزعاٌ مما كان عليه منذ أسبوع وكان أيضاً يبدو أكثر هرماً. اما ملابسه فكانت مضحكة بانشطارها إلى قسم أعلى رسمي، بدت عليه وكأنه ذاهب إلى حفلة تنكرية لا تتناسب مع حضوره ومن الأسفل ببنطاله الجينز يبدو كعامل في مصنع. فكّر أنه رغم ذلك يوجد نقطة متشابهة تجمع القسمين وهو كونية الظاهرتين رأس المال والعمالة.

في الخارج كانت السماء باهتة الألوان بشكل جميل كما هو المعتاد في هذه المدينة، فالسماء هنا لا تغير لونها، تبقى فاترة طوال اليوم تعكس صدى ارواح ساكنيها. عند موقف الباص، وقف إلى جانبه بعض الحمام الذي كان يتحرك بخفة. طلب شافيل من إحداها مرافقته إلى المقابلة، نظرت إليه الحمامة بالعين الأولى ثم بالأخرى كما لو أنها لا تصدق ما ترى، ثم اصدرت صوتاً مبحوحاً تعبر فيها عن قلقها حيال الأمر، اخبرها شافيل أنه لا داعي للقلق وأنه لن يكون افضل منها في المقابلة، من يدري ربما نخرج من هناك وتكونين أنتِ من حصلتِ على العمل؟ أضاف أن السؤال الأول سيكون لماذا ترغبين في العمل لدينا؟ وبالتأكيد لدى البشر الكثير من الإجابات، لكنه في كل مرة كان يجيب بأنه يحتاج الى المال وأن الشركة كانت من بين القليل الذين أتاحوا له فرصة للعمل، خمّن شافيل أنّ إجابة الحمامة لن تختلف عن إجابته. في الطرف الآخر كان مجنون الحي يمشي مسرعاً، وكأنّه ذاهب إلى خشبة المسرح ليواصل حديثه اللامتناهي بالعفو عن كل المجانين في العالم. كان هناك أيضاً الكثير من المارة، لكن يصعب على شافيل ملاحظتهم، لأن انتباهه موجه لما يتمتع بالخفة. التي يتمتع بها البشر فقط بالصباح والمساء، أثناء توجههم إلى العمل وفي طريق العودة. أمّا في مثل هذا الوقت فإن الهموم تلبسهم لدرجة تخفي وجودهم بظلها الثقيل.

عندما وصل إلى المنطقة التي تقع فيها الشركة، وجد المبنى عبارة عن منزل قديم يفوح من مدخله رائحة عفونة، ذكّرته بأفرع الأمن في بلده. جلس أمام صاحب الشركة وهو رجل عجوز، يبدو أنه قطع سن التقاعد لكنه لايزال يملك الطاقة للعمل. كان العجوز يتحرك بنشاط خلف مكتبه بين الأوراق وشاشة كمبيوتره ومن فترة إلى أخرى ينظر إلى شافيل بفاهٍ مفتوحة كما لو أنه يتحدث في حلم دون أن ينطق بكلمة. بقي شافيل منتظراُ الأسئلة المملة التي تطرح في كل المقابلات، إلا أنّ العجوز بعد نصف ساعة قفز عن كرسيه إلى الغرفة المجاورة ثم عاد، وراح يحدق فيه بثبات وعبوس لدرجة أن شافيل كان واثقاً هذه المرة أنّ لديه مايقوله. ”هل تعرف ماهي ايميلات السبام؟“. ”إنها تملأ ايميلات كل البشر.“ أجابه شافيل

”حسنا، لقد تم تعيينك وتستطيع الالتحاق بزملائك في الغرفة المجاورة.“

عندما لاحظ العجوز الحمامة تتحرك مع شافيل سأله عنها. نظر شافيل إلى الحمامة وأجاب بأنها مساعدته. ”حسناً، لكني لن أدفع لها شيئاً“ قال العجوز. أخبره شافيل أنّ الحمامة تستطيع تدبر أمر حياتها بدون مال وأنّ العمل بالنسبة لها حب أو هواية أو ربما رغبة في تحقيق الذات، لا أحد يستطيع تأكيد الإجابة الدقيقة.

في الغرفة المجاورة، رأى شافيل موظفين. شاب ضعيف ومهترئ كما لو أنّه ليف الكتروني هرب من شبكة الانترنت إلى العالم الخارجي. أما الفتاة فكانت جميلة بشكل لا يمكن اختزاله، إلا أنها تبدو متنازلة عن أبهة جمالها الجذاب، لأنها رضيت بالتواجد في هذا المكان وأيضاً لأنها لم تكن ترتدي أية مجوهرات ولا تضع مساحيق تجميل. عندما رأت شافيل والحمامة مترافقان بدخولهما. نفخت بقوة وارتفعت غرتها إلى الأعلى وكأن شعرها يشاركها الاعتراض وقالت ”مزيد من الرجال يعني مزيد من المجانين“، وأضافت أنّ المدير طلب منها أنّ تشرح للموظف الجديد مهمته. اعترض الشاب بأنه اذا كان هو لا يملك أي مهمة للقيام بها فما حاجتنا إلى موظف جديد مع حمامة. امرته الفتاة أن يحمل كرسيه على رأسه ويركض به في الغرفة إلى أن تنتهي من الشرح. بدأ الشاب يركض في الغرفة بشكل حلقة، وثبت الحمامة في مكانها وكأنها تقول لشافيل أنّ العمل يبدو سهلاً وممتعاً هنا.

شرحت له الفتاة بشكل عملي وواضح، أنّ صاحب العمل مفصول عن العالم، غالباً لا يتدخل بنا لكنه أحياناً يصبح مقيتاً بصورة مروعة، خاصة لحظة دفع الراتب فهو إنسان شحيح، فكّر شافيل أن هذا حال جميع أصحاب العمل، وأنه لا ضير من العمل بأجر ضئيل مقابل أن لا يحشر صاحب العمل قدمه في مؤخرتنا بأوامره طيلة اليوم. وأضافت أن العجوز عندما استلم ايميل “سبام” يخبره عن إمكانية فوزه بمليون دولار، ترك سحب اللوتو، أو ما يسمى بالياناصيب، وبدأ ملاحقة هذه الايميلات إيماناً منه أنّ لابد من وجود ايميل على الأقل بينهم حقيقي وعلينا البحث عنه بعد اقصاء المزيف منها، ليربح الجائزة. اخبرها شافيل ”لكنكم تعرفون ان هذا محض جنون، أليس كذلك؟“ نظرت إليه الفتاة وأخبرته أنّه يملك بعض الذكاء على الرغم من كونه رجل. وأضافت أنه لذلك قامت بإضافة مهمة ثانية وهي البحث في الايميلات التي تحاول ابتزاز الناس وخاصة الموجهة للنساء وتدميرها، رنّ صدى الكلمة الأخيرة بالغرفة لدرجة أن الحمامة اضطرت أن تغطي اذنيها بجناحيها. فكّر شافيل أنّ الصورة في العمل تتوافق مع العصر، جيل قديم يحلم بالثروة وجيل جديد يسعى الى تغيير العالم، لم يكن شافيل يشعر بأنه موجود بأي من المجموعتين لكن بما أننا مضطرون للخروج فلا بد من أخذ جانب، وكان هو أقرب إلى الثاني لأن الرغبة بعدم التواجد يعني رفض لما هو موجود.

طلبت من شافيل الجلوس في مكانه والبدء بالعمل. في الخلف كان الشاب لايزال يركض وعلى رأسه الكرسي الذي يجلس فيه الحمام سعيداً إلى أن امرتهم الفتاة بالتوقف. زعق العجوز من الغرفة المجاورة بوصول ايميل جديد، يتحدث عن جائزة. بدأ شافيل في تعقب مصدر الايميل وبعد وقت قصير، وصل إلى الحاسب الذي ارسله. عندما اخبر الفتاة قامت وربّت على كتفه استحساناً. طلبت منه أن يشارك شاشته مع فريق العمل وتحديد موقع المرسل واختراق حاسبه.

المرسل اسمه السير جوان، كان صندوق الإرسال في ايميله مليء برسائل من نوع تعرف على فتاة/ شاب، افتح الرابط لترى صورتك عارية وأيضاً ربحت مليون دولار، امرأة تملك مليون وتحتاج لمدير وزوج… اخترقت الفتاة الفيسبوك الخاص به ووجدت العديد من المراسلات الإباحية مع فتيات، يقوم فيما بعد بابتزازهن. كان يتبع طريقة سهلة جداً في الاغواء حيث يرسل رسالة موحدة لجميعهن، ثم يمرر الرد من واحدة الى أخرى، حيث ينقل رد غرامي من إحداهن الى التالية أو اذا تلقى أغنية غرامية يمررها للأخريات وتقع الفتيات في حبه لذوقه او الأصح ذوقهن الرفيع.. صاحت الفتاة بصوت عالي وكأنها تتحدث إلى جمهور من الحمقى والطرشان ”إنه محتال، مخاتل علينا ايقاف حساباته“. عندما سمع العجوز الأوامر، راح يقفز من غرفته الى الغرفة الأخرى، من المقعد إلى الشاشة، بخفة القط البري.. وطلب منهم التركيز على حالته المادية إن كان صادق في الجوائز.

كانت الدقائق التالية مشدودة بكل الخيوط وترص في كل شاشة من تلك الغرفة الباهتة إلى حد خارق للمألوف، من ذلك التجريد والعراء كانت الشاشة تخرج تلك النسخ المتغيرة من ذلك المخاتل، نسخ يخلقها في العالم الافتراضي دونما جهد وفي طرفة عين. مر العجوز من جانبنا بسرعة كما لو أنه ينوي القفز من فوقنا إلى مكتبه محدثاً شلالاً من الضجيج. عندما ابتعد طلبت الفتاة من الباقي الهجوم معاً، تردد شافيل وقال أن ذلك قد يكون تعدي لحدود حرية الأفراد. ردت عليه أنّ الحرية وحدها لا تكفي لابد من وجود مؤسسات تحمي الحرية من اعدائها.

ألقى شافيل نظرة سريعة على الأسماء الموجودة في ماسنجر السير جوان، توقف عند اسم يعرفه، عندما فتح صفحة الفتاة، كانت هناك فيونا، شريكته، ترقد بين الضحايا. عاد إلى رسائله معها، وجد اسمه. كانت فيونا قد اخبرته أنها مع حبيب يقضي وقته في العمل والكتب يبحث فيها عن معنى. رد عليها السير بأن المعنى موجود في حلماتها التي تبدو منتصبة دوماً وكأنها تشير إلى درب التبانة. ضحكت فيونا وأضافت أنها لطالما شعرت أنها تملك حلمات فلسفية. شعر شافيل بخدر يمتد من كتفه الأيسر إلى أصابعه. عندما شعرت الحمامة بتوتر صديقها، راحت تنتقل بينهم وكأنها تعرض المساعدة بالهجوم وذلك بالذهاب إلى موقع السير جوان لإفراغ معدتها فوق رأسه، وافقت الفتاة ورافقوا الطير إلى النافذة لتشجيعه في مهمته. ألقت الفتاة بمرفقيها على عتبة النافذة ونظرت إلى السماء كمن يريد انتظار طلوع فجر العدالة. شعر شافيل بالراحة للحالة من حوله وفكر أن لحظة الدهشة هي اللحظة التي ينظر فيها العالم الخارجي إلى الإنسان وليس العكس.

أخبر شافيل الفتاة أن السرعة لم تعد تقتصر على الحاسب بل امتدت إلى المشاعر الإنسانية وأضاف أنه في إحدى المرات القليلة التي شعر فيها بالحب، بقي سنتين صامتاً وبعيداً، لأنه كان لابد وقبل أي شيء أن يبقى وحيداً مع نفسه حتى يتأمل مشاعره ويستمتع بها، ثم ينتقل إلى الخطوة التالية. اخبرته الفتاة عن اسطورة الامبراطور شارلمان الذي عشق في أواخر أيامه فتاةً وقلق البارونات في بلاطه كثيراً عندما رأوا العاهل مأخوذاً بعاطفة الحب وغائب الذهن تماماً عن مكانته الملكية. مهملاً شؤون الدولة. وحين توفيت الفتاة ارتاح رجال البلاط ارتياحاً عظيماً. إلا أن هذا الارتياح لم يدم طويلاً. لأن حب شارلمان لم يمت بموت الفتاة. إذ أمر بنقل الجثمان المحنط الى غرفة نومه. ورفض أن ينفصل عنه. وشكّ الأسقف “تورين” الذي أثارته هذه العاطفة المروعة. أن يكون في الأمر نوع من السحر. وأصرّ على فحص الجثمان. فوجد خاتماً ذا فص ثمين تحت لسان الفتاة الميتة. وما أن أصبح الخاتم بين يدي “تورين” حتى عشقه “شارلمان” وأمر بدفن الفتاة بسرعة. ولكي يتخلص “تورين” من هذه الوضعية المحرجة، القى بالخاتم في بحيرة “كونستانس” وهكذا عشق شارلمان البحيرة ولم يعد يستطيع مغادرة شواطئها. وأضافت أن حال البشرية مثل تلك الاسطورة حيث الحب أصبح للأشياء وليس للكائن الحي، وفي السنين الأخيرة اصبحت العواطف موجهة إلى الوسيط الذي يربط بين البشر، أي الانترنت، لدرجة لم يعد لوجود كائن حي في الطرف الآخر من عدمه أية أهمية.

ارسل شافيل رسالة إلى فيونا يطلب منها الرحيل قبل عودته إلى المنزل، سألته عن سبب هذا الطلب المفاجئ، أجاب أن الحلمات الفلسفية تحتاج إلى مؤمن وهو حتى بهذا لم يعد يملك إيماناً. اتصلت به عدة مرات لكنه لم يجب.

عندما عادت الحمامة اخبرتهم أن المهمة انجزت، عادوا إلى مقاعدهم وعادت إليهم هويتهم المعاصرة. ظهر على شاشاتهم ايميل عن فرصة فوز مليون من السير جوان مجدداً. ركض العجوز إلى الغرفة هائجاً مثل ثور أثاره اللون الأحمر. انفعل شافيل معه، أخبره بما قامت به الحمامة وأن خراءها والرزق ذو ارتباط وثيق بثقافته، فلابد من وجود ربح حقيقي هذه المرة. لكنه بعد لحظات فكر أنه إذا كانت الأسطورة صادقة، فهذا يعني أن السير جوان هو الذي سيكسب النقود، فطلب من العجوز أن يتأكد من حساباته البنكية، وكانت مخاوفه والاسطورة محقة. وانهارت الشركة بعد إفلاس صاحبها الذي شحب لونه وكأن الريح قطعت عنقه، وانضم إلى مجموعة مجانين العالم. بعد لحظات انتهت الحواسيب من مهمتها بتدمير الوجود الافتراضي للسير جوان.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة