الهوة في التنظيرات الفلسفية

يعارض منظرو مابعد الحداثة في المجتمعات الشرقية، حاجة مجتمعات المنطقة إلى الحداثة وذلك بحجة أن العالم كله استخدم التلفزيون والهاتف والبرادات والكثير من الأدوات التقنية وذلك برأيهم كافٍ لنقول أننا عشنا الحداثة. اعتقد أن هذا الاعتراض غير صحيح لأن الاستهلاك هي سمة مابعد حداثية، وأيضاً حتى لو كان بإمكاننا القول /بشكل ساذج/ أن الذوات بكل مكان مابعد حداثية وذلك لما يتمتعون به من سمات هذا العصر من شراهة بالاستهلاك والعيش في العالم الافتراضي.. لكن هذه الطريقة بالعيش لا تعني اننا أصبحنا مابعد حداثيين لان كل عصر اعتمد على ما وصل إليه ما قبله لبناء مفاهيم جديدة، وبالتالي دون المرور بالمفاهيم الحداثية التي تنطوي على زيادة هائلة في قدرة الفرد على تحصيل المعرفة، الانتاج، الانضباط، والشعور بأهمية الوقت، وتخليص العقل الجمعي من التفكير الميتافيزيقي وذلك بتعزيز التفكير النقدي والمنهجية العلمية.. بدون كل هذا لن تستطيع الذات ان تكون حداثية ولا أن تنتقل إلى مابعده، ببساطة لانها لن تستطيع تحقيق أهم سمة ما بعد حداثية وهي إعادة الفرد إنتاج حقيقته الخاصة، حيث بقيت كل مفاهيم الحقيقة والوجود محصورة في المؤسسات الدينية. وقد انتبه داريوس شيغان/الفيلسوف الايراني/ لهذا الأمر وعدل مساره الفكري مشيراً إلى هذه النقطة في كتبه الأخيرة وأشار إلى ضرورة المرور بمفاهيم الحداثة الفكرية.

في الحقيقة، إن نقل التنظيرات الغربية إلى مجتمعاتنا يجب ان يتم بحذر شديد وحساسية عالية لواقعنا، وهذا الرأي ليس متسقاً مع النظرة المعادية للغرب القائل بأن هذه التنظيرات مؤامرة او تهديد لحضارتنا، إنما هي تنبع من اختلاف وضعنا وتأخرنا عن الركب الحضاري المعاصر. حيث أنه في بعض الأحيان تكون التنظيرات الحداثية هي الواجبة وفي أخرى مفاهيم  المابعد حداثة تكون أفضل. فالمفاهيم الما بعد الحداثية التي يعتمدها نوعاً ما اليسار الليبرالي في الغرب في دعم الهويات المختلفة وتعزيز تواجدها، لما تعرضت له تلك الهويات من ظلم، على الرغم من عدم محاباتي لهذه الطروح حتى في الغرب، لكنها تبدو إلى الآن على الأقل مقبولة، لأنها تتواجد ضمن إطار ليبرالي عام تعطي الأريحية للجميع في الاختلاف، فالحقوق الطبيعية، من حق الحياة والحرية والملكية التي تعد حقوقاً ضرورية لاستمرار الحياة العادية، محفوظة. بالإضافة إلى وجود سلطات تشريعية وتنفيذية تحمي الجميع. على العكس في مجتمعاتنا فلا يوجد أي إطار عام حامي، فنحن نعيش في مجتمعات /هوبزية/ بحتة حيث حرب الكل ضد الكل، فكل هوية تعيش في حالة خوف ونزاع دائم مع الهويات الآخرى، ولا يوجد أي إطار اخلاقي وقانوني يجمع الكل.. وبالتالي فإن تعزيز الهويات المختلفة في مجتمعات متنازعة هوياتياً يؤدي إلى حالة كارثية أكثر دماراً مما هو موجود، كما نراه في الكثير من البلدان التي تنهشها صراع الهويات المختلفة من إثنيات وطوائف.

هذا على صعيد المجتمع، اما في حالات أخرى مثل التنظير النسوي فإن كل الجهود المبذولة مفيدة، فمن ناحية يقوم التنظير النسوي الحداثي على محاولة إعادة تقسيم السلطة، بينما تقوم النسويات المابعد حداثيات على تفكيك التراث الذكوري في مجتمعنا.. وهذه التنظيرات تحتاج شرح طويل. لكن ما اردت الوصول إليه ان بعض النسويات المشرقيات الحداثية وقعن في مشكلة عدم التمييز بينما ما وصل إليه الغرب من حقوق للنساء بالموجات الأربعة وبين واقعنا، حيث اعتمد بعضهن على التنظير النسوي الكلاسيكي /الحداثي/ الحالي في الغرب وذلك بمهاجمة النسويات ما بعد الحداثة في منطقتنا قبل تحقيق اهدافهم الأساسية في تقسيم السلطة وبذلك شتتن جهودهن التي يجب أن تتركز على تحرير المرأة، الى تصحيح اخطاء النضال النسوي الذي لم يحقق بعد أي خطوات حقيقية في منطقتنا. فالنسوية الكلاسيكية في أمريكا على سبيل المثال تحاول الحد من التأثير السلبي لما يقوم به اليسار الليبرالي ب ””cancel culture الذي يقوم على تهيج الراي العام على كل رأي مخالف، فالحيز الامريكي العام مرن بشكل كاف لكل هذه التجاذبات وذلك لما ذكرته سابقاً من توفر معايير عالية من مفاهيم وقيم في الوعي العام, بينما الحال في منطقتنا، إن حالة الإقصاء موجودة لعهود طويلة من قبل الذكور ضد النساء، وحالة التصحيح لما هو غير مصحح، الذي تقوم بها النسوية الكلاسيكية في منطقتنا بملاحقة اخطاء النسوية ما بعد حداثية، هو فعليا محاولة اقصاء لمواجهي الاقصاء الممارس من قبل الذكور.

من هنا، اعتقد ان علينا ان نكون حذرين جدا في عملية نقل التنظيرات الغربية المعاصرة لمنطقتنا بسبب الهوة الفاصلة بيننا وبين الركب الحضاري المعاصر.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة