جدل مع مقالة “الفلسفة والعدمية”

يتحدث ماهر مسعود في مقاله ”الفلسفة والعدمية“ عن أن العدمية الأخطر ليست تلك التي تأتي من إدراك الإنسان لفوضى الطبيعة، وبالتالي فقدان المعنى، إنما من تلك المنظومات التي استغلت خوف الانسان من الفوضى لتقدم له ”حقيقة“ تسكن قلقه وكون هذه الحقيقة خارج الخبرة الانسانية، فهي تتعالى ليست فقط على التجربة البشرية، بل على العالم ذاته، وبذلك يشعر الإنسان أمامها أنه ادنى، أي أنه جوهرياً أقل قيمة من هذا الجوهر المتعالي ولا يملك أمامه إلا المثول لقواه وأوامره، وليس هنا مكمن الباعث العدمي للذات الدنيا إنما تكمن في تقسيمات تلك المنظومات الفكرية حيث قسمت الافلاطونية العالم الى حقيقي متعالي/أرضي زائف. الماورائيات قسمت العالم إلى فانية/أبدية. الشيوعية اعتبرت أن كل ما قبل انتصار البروليتارية زائف.. وبالتالي فإن الحط من قيمة العالم المعيش يخلق العدمية عند الأفراد في هذه المنظومات ويمنع عنهم العيش والانغماس في العالم ويخلق تجلطات في الذات البشرية لتضعه في سكون او إرجاء أو انتظار.. وبالتالي، حسب ماهر مسعود، فإن وجود اي متعالي يؤدي إلى العدمية.

اتفق مع مسعود في جزئية التي يصف فيها حالة السكون،الارجاء، والانتظار لكن اختلف معه في حيثية أن وجود كل متعالي نتيجته العدمية، لأن عدم وجود متعالي هو جوهر العدمية وبالتالي اذا رفضنا تشكيل ووضع اي متعالي بديل لتلك المتعاليات فإننا سوف نصل إلى نفس النتيجة التي يحاول مسعود حثنا على الابتعاد عنها، وكذلك إن تلك المتعاليات تنفي الحياة مؤقتاً، تؤجله إلى حين آخر ولكن لا تعدمه لان جميع تلك ”الحقائق المتعالية“ لم تدفع افرادها الى اخذ موقف اعتراضي من الحياة كما هي حال العدمية، إنما قدمت طريقة عيش محددة إلى حين الانتقال الى العالم ”المنتظر“، وأدرك تماماً أن ذلك النفي قد يتطرف فيه بعض الأفراد ويدخلون في حالة سكون كامل أو ما يطلق عليه لاكان ”الموت الرمزي“ اي الوجود بدون تنفس، وبالتالي إلى نوع من العدمية، لكن أغلب الذوات في تلك المنظومات الفكرية تقوم بما يطلب منها من ذلك الجوهر المتعالي.

من هنا، فإن تلك المتعاليات ليست مشكلتها في خلق ذات عدمية انما في خلق ذات لا تتسيد حياتها، ذات لا تعترف بقصورها على الطريقة الكانطية انما تعتمد في حياتها على ذات متعالية كلية المعرفة تخبرها: كيف يجب أن تعيش؟ بينما الذات العدمية فإنها ترفض أن تعيش والانتقال من الاولى الى الثانية سهل لانها لا تحتاج الكثير من العمل حيث تنتقل من حالة ان معرفتها الذاتية تأتي من الخارج الى عدم الرغبة بالمعرفة بحجة عدم جدواها. وبذلك ما يجمع تلك الذوات هو الكسل والخمول.

لتخرج الذات من كسلها وتتحرك وتتسيد، وتملك مصيرها من جديد، وتمتلك تفاؤلية لا نهائية بوسائلها، لا يكون بإلغاء كل متعالي فكما قلت سابقاً، وجود متعالي خارج جوهرنا واعلى منه تسكن وتحبط من فعالية الذات وعدم وجود متعالي قد تدفع إلى الفوضى والخواء أي تدفع الذات إلى العدم والفراغ، انما انبعاث متعالي من الذوات، هذا المتعالي الذي يتكون بالتفكر والتعقل وينتج افتراضياً بشكل متفق عليه بين الذوات، متعالي نبعثه نحن ونعيد تشكيله وتغييره عند كل حاجة وعند كل تغير وتقدم بالفضاء المعرفي، هكذا تصبح الذوات قادرة على ان تكون فاعلة حيث تعمل، تنتج، تستمتع وتشعر بقيمتها وقيمة الكون ضمن تلك المعايير المتفق عليها. اي ان المتعالي الجديد اقل علواً من تلك السابقة وقابلة للتعديل، لكن لا يزال الفرد قادراً على استشعار المعنى والقيمة منها.

حول وجود المتعالي:

في بحث غانس في الانتربولوجيا، قدم مثالاُ افتراضياً عن التقاء إنسانيين بدائيين، غير قادرين على الكلام، يرنو كلاهما إلى قطعة طعام، وبطريقة مختصرة لشرح غانس، فإن هذين الكائنين إذا أراد كلاهما الامتلاك، فإن النتيجة هي صراع عنيف، اما اذا ارسل احدهما للآخر إشارة تعني أنه ليس هناك حاجة للاقتتال، وتقبل الآخر الإشارة، فإنه سيتم تأجيل الصراع في الوقت الحالي اما باقتسام الطعام أو تنازل احدهما للآخر.. ويضيف غانس أن كل ثقافة تبدأ من انبعاث هذه الإشارة البسيطة التي تتحول إلى اتفاق بين انسانيين او أكثر موجودين ضمن جغرافية. يخلق من انبعاث تلك الإشارة اتفاق بدئي، يرجئ العنف ويضع الأسس لكل الثقافات الإنسانية اللاحقة.

هذا الاتفاق البدئي بين الذوات يشكل إطاراً خارجياً ”متعالياً“ يخلق ظروفاً مناسبة ولو بشكل مؤقت للكائنات الدنيوية أن تتعايش بشكل أفضل ويكونوا أكثر فاعلية، جميلين، أخلاقيين، متعاليين ، قديسين..الخ، وبذلك فإن هذا المتعالي هو الذي أوصلنا إلى هذا اليوم. أتفهم التخوف من فكرة وجود ”المتعالي“ لما تحيله احياناً تاريخياً إلى متعالي قمعي ومكمم..ولكن إذا تحدثنا عن عالم اليوم ككل، ونرى الصورة الكلية لما وصلت إليه البشرية من تقدم، بعيداً عما يشعر ويمر به المرء من مصاعب في حياته الذاتية  وشعوره بالتعاسة أو مروره بعلاقة فاشلة أو مرض، وبعيداً عن الفشل والانهيار الذي حدث في سوريا حيث تعتبر مصيبة هذا البلد من مسببات انخفاض مؤشر التقدم الكلي في العالم، فإن هذا التقدم الذي وصلنا إليه اليوم كله أتى من وجود ذلك المتعالي الذي يتفاعل معه الذوات وتتكيف مع غايات ذلك المتعالي لإنتاج ما يخدمها، وكل هذه الظروف المعيشية الحالية تعود بالفضل لهذه الثقافات، اي بدون وجود تلك المتعاليات وإعادة خلقها باستمرار على مر التاريخ لكنّا وكانوا هؤلاء العدميين، والفوضويين وأصحاب النزعة الفردية بصناعة القيم، اي الذين يتصورون أن كل فرد بإمكانه وعنده الوقت والرواق لصنع معناه وقيمه.. كنّا جميعاً إلى اليوم وحيدين في الغابة، قلقين حتى اثناء أكلنا من مفترس آخر يأكلنا مع غذائنا أو منافس من نفس النوع يسرق ما بين أيدينا أو من استمرارية شعورنا بالجوع لقلة ما اصطادناه.

‎مؤخرة الموقع

‎القائمة الجانبية المتحركة