“أستطيع التحديق في الشمس دون أن أرى بصيص نور منها”
دار الكلب عدّة مرات حول المكان ليؤكد للمارّة أن هذه الدائرة الصغيرة التي شكّلها أصبحت محجوزة له ولصاحبه -الموسيقي الأعمى- طيلة ساعات النهار وعند انتهائه من دورته السابعة توجه إلى جانب صاحبه، رفع ذيله وهزّه ليضرب به ساق العازف، معلناً بدء الحفلة الموسيقية.
أخرج الرجل الكمان من حقيبته ببطء شديد كما لو أنه يتحضّر للعزف على أهم مسرح في العالم وينتظر أن تتناغم حركاته مع فتح الستارة.. انطلق بعزفه من النوتة A ضاغطاً على الوتر برخاوة، فخرج الصوت كما لو أنه صوت منشار يقطع الشجر، هرب الحمام- الذي كان يتنقل هنا وهناك- إلى مكان بعيد. عزف لعدّة ساعات متواصلة وعندما توقف، همَّ صديق له، كالمعتاد، بالاقتراب منهما، نبح الكلب بصوتٍ عالٍ، تحيةً له.. أخبره الصديق أنه كان رائعاً، سأله العازف إن كان الناس أحبّوا ما قدّمه؟ فقد اختار سيمفونية بيتهوفن التاسعة التي شعر أنها كانت صعبة عليه، كما أن نباح الكلب يمنع عنه صوت التصفيق..أجاب: نعم بالتأكيد وهناك على الطرف اليمين من وقوفك فتاة تبدو معجبة بشدة بك أو بموسيقاك لا أدري لكن استدر يميناً بكل الأحوال وابتسم لها. وهكذا فعل. كان سعيداً بذلك لدرجة أنه في طريق العودة، كان يمشي بخفة ويستدّل طريقه دون الحاجة إلى العصا..
سأله صديقه: لماذا تعزف في الشارع بدلاً من المشاركة مع إحدى الفرق؟
أجابه أن الفن شيء يقوم به منفرداً، فالعزف بالنسبة له كالحلم والحلم لا يمكن أن يكون جماعياً. وأضاف أنه يفضل أن يبقى هكذا في الشارع على أن يتحدد بما سوف تطلبه منه إدارة الاوركسترا.
-لكنك بكل الأحوال تعزف يومياً كما لو كنت موظفاً؟
– نعم وتمر أيام لا أشعر فيها بأي فرح أثناء العزف لكن هناك لحظات معينة تمر بي كل فترة فأشعر أنني أبدع فيها شيئاً جديداً، شيئاً خاصاً بي، أشعر حينها بسعادةٍ من القوة لدرجة أن يهرب من أمامي الموت نفسه.
تكرر الأمر في اليومين التاليين كما كان لمدة طويلة سابقة، دون أي أنقطاع أو عطلة حيث كان العزف الفعل الوحيد الذي يساعده في التغلب على اليأس الذي يولده جنون الأيام العادية. في إحدى الأيام عندما انتهى لم يظهر صديقه ولم ينبح الكلب ولم يسمع أي تصفيق. استدار حوله، مال بجسده مقدماً رأسه إلى الأمام موسعاً أذنيه، منتظراً التصفيق فلم يسمع سوى خطوات أناس يمرون بسرعة دون أدنى اكتراث وآخر يقول عزفه مقرف..حمل الكلب حقيبته ووقف منتظراً أيضاً كصاحبه، بدوا كما لو كانوا في انتظار غودو، لكن لا شيء.
كان يستطيع السير من المنزل إلى مكان وقوفه والعودة بنجاح كبير بعون عصاه وفي معظم الأحيان تكون المخاطر التي يواجهها مرتبطة بالبشر اكثر من الأشياء في الشارع.
على غير عاداته الروتينية، عندما وصل إلى المنزل رمى نفسه على الأريكة، التي بدت له في تلك المناسبة غير مريحة على شكل غير معهود، دون أن يبدل ثيابه ودون أن يأكل مفكراً بصديقه الذي لم يأت وكذلك في صمت الجمهور. قال لنفسه لا بد من وجود خطأ ما. شغل الراديو ليسمع الأخبار لا شيء مهم يذكر. في اليوم التالي تكرر الأمر، غاب الصديق والتصفيق. فقضى ليلة صعبة جداً، حاول تعزية نفسه. لا أحد يهتم بعزفه، هل كان صديقه يكذب كل هذه المدة؟ لكن لا بد، على الأقل، أن يكون صادقاً في وجود الفتاة فلا يمكن له أن يختلق هذا أيضاً. لابد أنها شعرت بالخجل من التصفيق لوحدها هناك.. فكّر فيها طيلة الليل، كان عليه أن يطلق عليها اسماً فلا يمكن التفكير بشخص لا تعرف شكله وكذلك اسمه! لم يستطع اختيار اسم من بين الكثير من الأسماء التي خطرت له، كان مشغولاً أكثر بفكرة أن صديقه خدعه كان يكذب عليه؟ لم يكن يعرف كيف يتعامل مع هذه الحقيقة فعلى الرغم من الحنق الذي يشعر به إلا أن الكذبة هي التي جعلته يستمر إلى هذا اليوم.
فتح النافذة ليتحسس البرد ويختار هندامه واهتم بنفسه في ذلك اليوم أكثر من المعتاد، لعل الفتاة تتشجع وتتقدم نحوه كما أنه قرر أن يعزف مقطوعة تمرن عليها مدة طويلة ”المشكلة في بيتهوفن اللعين“. لم يتغير شيء عما حدث له في اليوم السابق، لا شيء سوى زيادة في الخيبة والمرارة.. دفش الكلب ليبتعدوا عن المكان سريعاً. متوتراً، متضايقاً، مثقل بحمل لا يستطيع فهمه، يضرب عصاه الأرض، سار على غير هدى. تنبّه إلى صوت مياه تتدفق، وعندما اقترب من الصوت ودون أن يدري كيف؟ سقط إلى أسفل الجسر، في النهر.. ركض الناس لإنقاذه، اخرجوه وهو شبه فاقد للوعي، ساعدوه ليخرج المياه من جوفه وعندما استفاق سمع أحدهم يقول إنها ثاني حادثة انتحار خلال أسبوع. انتحر رجل اسمه طوني واليوم هذا يرمي بنفسه أيضاً.. ”لقد سقطت. لكن طوني، طوني صديقي“ نقلته سيارة الإسعاف، التي وصلت لاحقاً، إلى المنزل بعد أن تأكدت من سلامته.
في اليوم التالي، احتار إن كان عليه أن يخرج ليعزف كعادته أم أن يذهب ليلقي بنفسه في النهر. قرر البقاء في البيت وبقي على هذه الحال عدّة أيام دون خروج. يأكل قليلاً ويسمع الراديو كثيراً. يقضي يومه إلى جانب النافذة يسمع صفير هبوب الريح. لم يكن ينام بشكل جيد، وكما هو الحال في الليالي التي ينام فيه المرء قليلاً، يصبح لديه الكثير من الوقت، ليتعامل مع أعماله الداخلية، مع البرد الموجود في الداخل.
خرج بعد عدّة أسابيع ليس إلى ساحته، إنما توجه إلى المقبرة ليعزف ويبحث مجدداً عن لحظة تشعره بالسعادة.